فوضى الحواس )"الفصل الثالث"( للكاتبة المتميزة >>أحلام مستغانمي <<
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
فوضى الحواس )"الفصل الثالث"( للكاتبة المتميزة >>أحلام مستغانمي <<
الفصل الثالث
طبعًا
قلما تأتي تلك الأفراح التي ننتظرها في محطة.
وقلما يجيء، أولئك الذين يضربون لنا موعدًا.فيتأخر بنا أو بهم القدر.
ولذا، أصبحت أعيش دون رزنامة مواعيد، كي أوفر على نفسي كثيرًا من الفرح المؤجل.
مذ قررت أنه ليس هناك من حبيب يستحق الانتظار، أصبح الحب مرابطًا عند بابي، بل أصبح بابًا ينفتح تلقائيًا حال اقترابي منه .
وهكذا تعودت أن أتسلّى بهذا المنطق المعاكس للحب.
وكنت جئت إلى هذه المدينة دون مشاريع، ودون حقائب تقريبًا.
وضعت في حقيبة يدي ثيابًا قليلة،اخترتها دون اهتمام خاص لأقنع نفسي أن لا شيء كان ينتظرني هناك...عدا البحر.
البحر الذي يملك حقّ النّظر إليّ في ثياب خفيفة، دون أن يناقشه أحد في ذلك .ولذا جئته بأخف ما أملك،وبتواطؤ صامت ،فانا لا أدري إن كنت جئت حقًا من أجله.
عندما نسافر، نهرب دائمًا من شيء نعرفه. ولكن نحن لاندري بالضرورة ،ماالّذي جئنا نبحث عنه.
أترك حقيبتي ملقاة على سرير شاسع، لن يشغله سواي. وأذهب لاكتشاف البيت الذي سأقضي فيه أسبوعًا أو اسبوعين.
في الواقع، اذهب لاكتشاف مزاج الأمكنه، وماتبثّه روحها من ذبذبات، أستشعرها منذ اللّحظة الأولى.
أحببت هذا البيت : هندسته المعماريّة تعجبني، وحديقته الخلفيّة ، حيث تتناثر بعض أشجار البرتقال واللّيمون, تغريني بالجلوس على مقعد حجري, تظللّه ياسمينة مثقلة. فأجلس، وأستسلم للحظة حلم.
البيوت أيضًا كالناس.هنالك ماتحبه من اللّحظة الأولى. وهنالك مالاتحبه. ولو عاشرته وسكنته سنوات.
ثمّة بيوت تفتح لك قلبها.. وهي تفتح لك الباب. وأخرى معتمة، مغلقة على أسرارها، ستبقى غريبًا عنها، وإن كنت صاحبها.
هذا البيت يشبهني . نوافذه لاتطلّ على أحد. أثاثه ليس مختارًا بنيّة أن يبهر أحدًا. وليس له من سرٍ يخفيه على أحد.
كلّ شيء فيه أبيض وشاسع .لاتحده سوى خضرة الأشجار أوزرقة البحر و السماء .
بيت لايغري سوى بالحب والكسل، وربما بالكتابة.
أتساءل وأنا أتأمله، من ترى سكن هذا البيت. ومن مرّ به قبلي، ليؤثثه ويعتني بحديقته إلى هذا الحدّ..خلال أكثر من ربع قرن؟ فمن الواضح أنّه بيت يعود إلى أيّام الاحتلال الفرنسي، يوم كان كبار الاقطاعيّين الفرنسيّين، يعمرون فيلّيات فخمة على الشواطئ الجزائريًة، غالبًا ماتكون غير بعيدة عن السهول والأراضي الزراعيّة، الّتي كانوا يمتلكونها، وحيث ياتون للاصطياف.
بعد الاستقلال، حجزت الدولة الأملاك الشاغرة التي تركها المعمرون الفرنسيون لتكون مقرّاً صيفيّاً لكبار الضباط والمسؤولين الذين أصبح لهم وجود شرعيّ ودائم على موريتي وسيدي فرج ونادي الصنوبر.
ومن الأرجح أن تكون هذه الفيلا هي إحدى هذه الأملاك التي يتناوب عليها الضبّاط كل صيف، قبل أن يأتي من يحجزها نهائيّاً، مستندًا إلى نجومه الكثيرة ، أو إلى أكتافه العريضة. وسيشتريها حسب قانون جديد، بدينار مزيّ مثير للعجب.
متى حصل زوجي على هذه الفيلاّ .. وكيف؟ أسئلة لا يعنيني الجواب عنها ، ولكنّها تقودني إلى التفكير فيه.
فأتذكر أنني لم أطلبه هاتفيًا لأطمئن إلى سلامتنا، كما طلب مني أن أفعل حال وصولنا .
في الواقع، كان اسهل وأكثر راحة لنا أن نسافر، أنا وفريدة، بالطّائرة. ولكن زوجي أصرّ ان يرافقنا السائق بالسيّارة لخدمتنا. وحراسة هذا البيت الكبير، الذي لايمكن أن نبقى فيه بمفردنا، وذلك بانتظار أن يلحق بنا بعض الأهل ..
في انتظار ذلك أمامي عدّة أيام للّراحة، لا أدري تمامًا كيف أنفقها، والتي أبدأها بأخذ حمام دافئ، واللّجوء إلى النوم احتفالاً بحريّتي.
رحت أستعجل النوم. أحاول أن أنام دون أن اقع في فح الأحلام. ثمّة غرف جميلة إلى حد الحزن، تعاقبك أسرّتها بالحلم!
وبرغم ذلك، في الصّباح، لم أنج من جسدي. كنت أستيقظ وتستيقظ رغبة داخلي . تلفّني رائحة شهوتي فأبقى للحظات، مبعثرة تحت شرشف النوم النسائي الكسول.
يستبقيني إحساس بمتعة مباغته، لم أسع إليها . جاءني بها البحر على سيريري..ليتحرش بي.
على غير عادتي.. أستيقظ باكرًا هذا الصباح. وكأنّني أريد أن استفيد من كل لحظة حريّة قد تسرق مني فجأة، لأيّ سببٍ كان.
يفاجئني جوع صباحيّ لايقاوم، وكأنّ شهيتي للحياة قد تضاعفت هنا، فابعث بالسّائق لإحضار لوازم الفطور، وأبقى لأتفرج على البحر.
رائحته بعد ليلة كاملة من المدّ والجزر تزحف نحوي متوحّشة تستفزّ حواسّي بشهيّة غامضة للحب.
أتجاهل اعترافه الفاضح بليلة حب قضاها على مقربة مني، منشغلاً بترويض الأمواج، بينما كنت أنا منشغلة عنه بترويض حواسّي والهروب بنفسي من تلك الهواجس التي كانت تطاردني وتعكر مزاج نومي.
البارحة نمت نومًا عميقًا، كما لم أنم منذ أيام . شعرت بمعنى السكينة، وكأنني تركت كل شيء خلفي، وجئت لألقي بنفسي هنا، على سرير شاسع، لاذاكرة له.
والآن لارغبة لي سوى في تناول فطوري، والخروج صحبة فريدة على الأقدام، لا كتشاف هذه المنطقة.
حتّى قبل ان يغريني شاطئ(سيدي فرج) بمنشآته السياحيّة ومركباته التجاريّة. اذهلني مصادفة وجودي دائمًا في الأماكن التي يطوقها التاريخ، والتي تشهر ذاكرتها في وجهك عند كل منعطف.
"سيدي فرج" ليس في النهاية اسمًا لوليّ صالح، مازال النّاس يترددون على ضريحه، طالبين بركاته، إنما اسم المرفا الذي دخلت فرنسا منه على الجزائر.
فهنا رست سفنها الحربية ، ذات 5 يوليو من صيف 1830، بعدما تم تحطيم الوسائل الدّفاعية المتواضعة الموضوعة في مسجد " سيدي فرج" وتحويله مركزًا لقيادة أركان المستعمرين.
وشاءت الأقدار، او بالأحرى شاء المفاوضون الجزائريون، ان يجعلوا فرنسا تغادر الجزائر بعد قرن وثلاثين سنة، في هذا التاريخنفسه، ليصبح 5 يوليو أيضًا تاريخ استقلالنا.
نعم.. في زمن سابق، كان الجزائريون يصرّون على كتابة التاريخ بغرورهم!
"حادثة المروحة "الشهيرة نفسها، والتي صفع بها الدّاي وجه القنصل الفرنسي، والتي تذرعت بها فرنسا آنذاك لدخول الجزائر، بحجة رفع الإهانة، ليست إلا دليلاً على كبريائنا أو عصبيتنا ..وجنونا المتوارث.
وربما كغمزةٍ للتاريخ، تفنن الجزائريون غداة الاستقلال في هندسة هذا المرفق، وبنوه على شكل قلعة عصرية، جاعلين برج (سيدي فرج) ومنارته ، ذوي علوّ شاهق أو هكذا يبدوان وكأن هناك من يتوقع قدوم عدو من البحر..
ولكن العدو منذ ذلك الحين. لم يعد يأتي من البحر.. ولا بالضرورة من الخارج!
سعدت ذلك اليوم بمشواري الصباحي . أذكر أنني مشيت يومها دون هدف محدد. بانبهار الا كتشاف الأول
وعدت إلى البيت مع فريدة محملتين بمشتريات ..وأحلام مختلفة.
كنت أشعر أنني حققت حلماً صغيراً، لم يكن على بساطته في متناول يدي . اكتشفت أن أمنيتي لم تكن تتجاوز المشي باطمئنان في شارع .
في البيت كانت الحياة هادئةكما لم أعهدها من قبل . وكنا بدأنا نعيش أنا وفريدة على إيقاع جديد يتناسب مع حياة المصيف.
فبرغم خلافاتنا السابقة، وبرغم اختلاف عمرينا ، وثقافتينا، وذوقينا ، كنا سعيدتين بوجودنا معاً، بعدما أصبح بيننا تواطؤ الحرية المؤقتة، التي نزلت علينا معاً، والتي لم تكن تعني ، في ظروفنا تلك، المفهوم نفسه لكلتينا.
فبالنسبة إلى فريدة التي قضت عمرها عبدة في بيت الزوجية، ولم تغادره سوى لتعود إلى بيت أخيها مطلقة، لم تكن الحرية سوى إمكانية النظر إلى الآخرين من شرفة بحرية وهم يعيشون ..ويسبحون ويتحمصون تحت الشمس نيابة عنها .
الحرية لم تكن أكثر من حقها في الحلم .
أما حريتي فقد جاءت معاكسة لمنطق حريتها . لقد أصبحت أنا امرأة حرة، فقط لأنني قررت أن أكف عن الحلم!
اكتشفت ذلك البارحة . عندما فتحت دفتري الأسود الذي أهملته بعض الشئ منذ قدومي، كي أسجل عليه أول فكرة توصلت إليها أخيراً:"الحرية أن لا تنتظر شيئا ".
وكان يمكن أن أكتب هذا في صيغة أخرى كأن أقول :"الترقب حالة عبودية ". فلقد توصلت إلى الأولى من خلال الثانية.
ولكن ما كدت أتحرر من عبودية الإنتظار، حتى وقعت في عبودية الكتابة. وهو ما جعل فريدة تجد في بقائي بالبيت، وعكوفي الدائم على الكتابة، علامات مثيرة للقلق.
وكانت تشعر تجاهي بمسؤولية مزدوجة . نظراً إلى سنها، وإلى كونها مكلفة من طرف أخيها بالسهر على صحتي . فراحت تغريني بمشاهدة التلفزيون، وتحثني على الخروج.
وهكذا قررت ذات عصر أن أخرج، هربًا من النوم والكتابة ، اللّذين يتناوبان عليّ في هذا الوقت بالذّات..
في الواقع، حيث كنت، حالةً من الضّجر الجسدي تنتابني كل ّيوم في توقيت القيلولة. وكيفما كان الطّقس، يطاردني هذا الإحساس حتى مجيء الغروب . ويضعني كل عصر أمام الأسئلة نفسها: ماذا يفعل الناس هذا الوقت بوقتهم.. وأجسادهم؟ وكيف ينفقون هذه الساعات؟ ولماذا؟ في العصر دون أيّ وقت آخر، ذبذبات عالية من الشّهوة تسيطر على تلك الغرف النسائية ، التي تنتقل فيها النساء بثياب البيت.. متكاسلات.. ضجرات؟
ولم يكن الوقت مناسبًا لأعثر على أجوبة لكلّ هذه الأسئلة. فاكتفيت بأن أرتدي أول فستان صادفني،
أذكر أنني اجتزت شارعنا بخطًى كسلى. رحت أتفرّج على تلك البيوت ذات النّوافذ الزرقاء..أو الخضراء، والّتي تعيش قيلولتها بسكينة لم أعهدها.
لاشيء كان يشبه هنا شوارع قسنطينة، المكتظة بالسّيارات والمارّة، وضجيج الحياة. كل شيء هنا جميل ونظيف، ومهندَس بذوق، وكأنه ينتمي إلى مدينة أخرى. أوكأنه وجد خطأً هنا.
ولولا وجود بعض السيارات على جانب رصيفه، ومرور أحدهم وهو عائد من مخبز، أو من ملعب "تينِس" ، لتوقّع المارّ من هنا أنّ لا أحد يسكن هذا الشارع.
فهذا الشارع، يستيقظ وينام بهدوء، وبحضارة لا علاقة لهما بصراخ الباعة والأطفال، ونداء المآذن التي تستيقظ عليها شوارع قسنطينة.
أمام مخبزة فاجئتني رائحة الخبز الطازّج. فدخلت مستسلمة لجوع مفاجىء. اخترت تشكيلة من قطع الحلوى، ورغيفين.
ثمّ تذكرت أنّ مشواري لم ينته . فطلبت من البائع أن يحتفظ لي بها. وواصلت جولتي بحثًا عن بائع الجرائد. حيث رحت أقلّبها بفضول من لم يطالعها منذ أسبوع.
كلّ شيء أصبح فجأة يغريني بالقراءة. وكأنني أستيقض هذا الصّباح لأكتشف العالم.
وأقتنيت مجلّة نسائيّة..وأخرى سياسية. وجرائد بالعربية وأخرى بالفرنسية. ولم أسأل نفسي إن كنت سأطالعها حقّاً. لذّتي كانت في اقتنائها. أنا التي كانت الجرائد تأتيني حتى الآن، مدفوعة ومنتقاة، حسب ذوق زوجي وإهتماماته!
أذكر أنني كنت أطالع إحداها، عندما جاءني من الخلف صوت يقول"دعي الجرائد..لا شيء يستحقّ القراءة هذه الأيام !".
طبعًا
قلما تأتي تلك الأفراح التي ننتظرها في محطة.
وقلما يجيء، أولئك الذين يضربون لنا موعدًا.فيتأخر بنا أو بهم القدر.
ولذا، أصبحت أعيش دون رزنامة مواعيد، كي أوفر على نفسي كثيرًا من الفرح المؤجل.
مذ قررت أنه ليس هناك من حبيب يستحق الانتظار، أصبح الحب مرابطًا عند بابي، بل أصبح بابًا ينفتح تلقائيًا حال اقترابي منه .
وهكذا تعودت أن أتسلّى بهذا المنطق المعاكس للحب.
وكنت جئت إلى هذه المدينة دون مشاريع، ودون حقائب تقريبًا.
وضعت في حقيبة يدي ثيابًا قليلة،اخترتها دون اهتمام خاص لأقنع نفسي أن لا شيء كان ينتظرني هناك...عدا البحر.
البحر الذي يملك حقّ النّظر إليّ في ثياب خفيفة، دون أن يناقشه أحد في ذلك .ولذا جئته بأخف ما أملك،وبتواطؤ صامت ،فانا لا أدري إن كنت جئت حقًا من أجله.
عندما نسافر، نهرب دائمًا من شيء نعرفه. ولكن نحن لاندري بالضرورة ،ماالّذي جئنا نبحث عنه.
أترك حقيبتي ملقاة على سرير شاسع، لن يشغله سواي. وأذهب لاكتشاف البيت الذي سأقضي فيه أسبوعًا أو اسبوعين.
في الواقع، اذهب لاكتشاف مزاج الأمكنه، وماتبثّه روحها من ذبذبات، أستشعرها منذ اللّحظة الأولى.
أحببت هذا البيت : هندسته المعماريّة تعجبني، وحديقته الخلفيّة ، حيث تتناثر بعض أشجار البرتقال واللّيمون, تغريني بالجلوس على مقعد حجري, تظللّه ياسمينة مثقلة. فأجلس، وأستسلم للحظة حلم.
البيوت أيضًا كالناس.هنالك ماتحبه من اللّحظة الأولى. وهنالك مالاتحبه. ولو عاشرته وسكنته سنوات.
ثمّة بيوت تفتح لك قلبها.. وهي تفتح لك الباب. وأخرى معتمة، مغلقة على أسرارها، ستبقى غريبًا عنها، وإن كنت صاحبها.
هذا البيت يشبهني . نوافذه لاتطلّ على أحد. أثاثه ليس مختارًا بنيّة أن يبهر أحدًا. وليس له من سرٍ يخفيه على أحد.
كلّ شيء فيه أبيض وشاسع .لاتحده سوى خضرة الأشجار أوزرقة البحر و السماء .
بيت لايغري سوى بالحب والكسل، وربما بالكتابة.
أتساءل وأنا أتأمله، من ترى سكن هذا البيت. ومن مرّ به قبلي، ليؤثثه ويعتني بحديقته إلى هذا الحدّ..خلال أكثر من ربع قرن؟ فمن الواضح أنّه بيت يعود إلى أيّام الاحتلال الفرنسي، يوم كان كبار الاقطاعيّين الفرنسيّين، يعمرون فيلّيات فخمة على الشواطئ الجزائريًة، غالبًا ماتكون غير بعيدة عن السهول والأراضي الزراعيّة، الّتي كانوا يمتلكونها، وحيث ياتون للاصطياف.
بعد الاستقلال، حجزت الدولة الأملاك الشاغرة التي تركها المعمرون الفرنسيون لتكون مقرّاً صيفيّاً لكبار الضباط والمسؤولين الذين أصبح لهم وجود شرعيّ ودائم على موريتي وسيدي فرج ونادي الصنوبر.
ومن الأرجح أن تكون هذه الفيلا هي إحدى هذه الأملاك التي يتناوب عليها الضبّاط كل صيف، قبل أن يأتي من يحجزها نهائيّاً، مستندًا إلى نجومه الكثيرة ، أو إلى أكتافه العريضة. وسيشتريها حسب قانون جديد، بدينار مزيّ مثير للعجب.
متى حصل زوجي على هذه الفيلاّ .. وكيف؟ أسئلة لا يعنيني الجواب عنها ، ولكنّها تقودني إلى التفكير فيه.
فأتذكر أنني لم أطلبه هاتفيًا لأطمئن إلى سلامتنا، كما طلب مني أن أفعل حال وصولنا .
في الواقع، كان اسهل وأكثر راحة لنا أن نسافر، أنا وفريدة، بالطّائرة. ولكن زوجي أصرّ ان يرافقنا السائق بالسيّارة لخدمتنا. وحراسة هذا البيت الكبير، الذي لايمكن أن نبقى فيه بمفردنا، وذلك بانتظار أن يلحق بنا بعض الأهل ..
في انتظار ذلك أمامي عدّة أيام للّراحة، لا أدري تمامًا كيف أنفقها، والتي أبدأها بأخذ حمام دافئ، واللّجوء إلى النوم احتفالاً بحريّتي.
رحت أستعجل النوم. أحاول أن أنام دون أن اقع في فح الأحلام. ثمّة غرف جميلة إلى حد الحزن، تعاقبك أسرّتها بالحلم!
وبرغم ذلك، في الصّباح، لم أنج من جسدي. كنت أستيقظ وتستيقظ رغبة داخلي . تلفّني رائحة شهوتي فأبقى للحظات، مبعثرة تحت شرشف النوم النسائي الكسول.
يستبقيني إحساس بمتعة مباغته، لم أسع إليها . جاءني بها البحر على سيريري..ليتحرش بي.
على غير عادتي.. أستيقظ باكرًا هذا الصباح. وكأنّني أريد أن استفيد من كل لحظة حريّة قد تسرق مني فجأة، لأيّ سببٍ كان.
يفاجئني جوع صباحيّ لايقاوم، وكأنّ شهيتي للحياة قد تضاعفت هنا، فابعث بالسّائق لإحضار لوازم الفطور، وأبقى لأتفرج على البحر.
رائحته بعد ليلة كاملة من المدّ والجزر تزحف نحوي متوحّشة تستفزّ حواسّي بشهيّة غامضة للحب.
أتجاهل اعترافه الفاضح بليلة حب قضاها على مقربة مني، منشغلاً بترويض الأمواج، بينما كنت أنا منشغلة عنه بترويض حواسّي والهروب بنفسي من تلك الهواجس التي كانت تطاردني وتعكر مزاج نومي.
البارحة نمت نومًا عميقًا، كما لم أنم منذ أيام . شعرت بمعنى السكينة، وكأنني تركت كل شيء خلفي، وجئت لألقي بنفسي هنا، على سرير شاسع، لاذاكرة له.
والآن لارغبة لي سوى في تناول فطوري، والخروج صحبة فريدة على الأقدام، لا كتشاف هذه المنطقة.
حتّى قبل ان يغريني شاطئ(سيدي فرج) بمنشآته السياحيّة ومركباته التجاريّة. اذهلني مصادفة وجودي دائمًا في الأماكن التي يطوقها التاريخ، والتي تشهر ذاكرتها في وجهك عند كل منعطف.
"سيدي فرج" ليس في النهاية اسمًا لوليّ صالح، مازال النّاس يترددون على ضريحه، طالبين بركاته، إنما اسم المرفا الذي دخلت فرنسا منه على الجزائر.
فهنا رست سفنها الحربية ، ذات 5 يوليو من صيف 1830، بعدما تم تحطيم الوسائل الدّفاعية المتواضعة الموضوعة في مسجد " سيدي فرج" وتحويله مركزًا لقيادة أركان المستعمرين.
وشاءت الأقدار، او بالأحرى شاء المفاوضون الجزائريون، ان يجعلوا فرنسا تغادر الجزائر بعد قرن وثلاثين سنة، في هذا التاريخنفسه، ليصبح 5 يوليو أيضًا تاريخ استقلالنا.
نعم.. في زمن سابق، كان الجزائريون يصرّون على كتابة التاريخ بغرورهم!
"حادثة المروحة "الشهيرة نفسها، والتي صفع بها الدّاي وجه القنصل الفرنسي، والتي تذرعت بها فرنسا آنذاك لدخول الجزائر، بحجة رفع الإهانة، ليست إلا دليلاً على كبريائنا أو عصبيتنا ..وجنونا المتوارث.
وربما كغمزةٍ للتاريخ، تفنن الجزائريون غداة الاستقلال في هندسة هذا المرفق، وبنوه على شكل قلعة عصرية، جاعلين برج (سيدي فرج) ومنارته ، ذوي علوّ شاهق أو هكذا يبدوان وكأن هناك من يتوقع قدوم عدو من البحر..
ولكن العدو منذ ذلك الحين. لم يعد يأتي من البحر.. ولا بالضرورة من الخارج!
سعدت ذلك اليوم بمشواري الصباحي . أذكر أنني مشيت يومها دون هدف محدد. بانبهار الا كتشاف الأول
وعدت إلى البيت مع فريدة محملتين بمشتريات ..وأحلام مختلفة.
كنت أشعر أنني حققت حلماً صغيراً، لم يكن على بساطته في متناول يدي . اكتشفت أن أمنيتي لم تكن تتجاوز المشي باطمئنان في شارع .
في البيت كانت الحياة هادئةكما لم أعهدها من قبل . وكنا بدأنا نعيش أنا وفريدة على إيقاع جديد يتناسب مع حياة المصيف.
فبرغم خلافاتنا السابقة، وبرغم اختلاف عمرينا ، وثقافتينا، وذوقينا ، كنا سعيدتين بوجودنا معاً، بعدما أصبح بيننا تواطؤ الحرية المؤقتة، التي نزلت علينا معاً، والتي لم تكن تعني ، في ظروفنا تلك، المفهوم نفسه لكلتينا.
فبالنسبة إلى فريدة التي قضت عمرها عبدة في بيت الزوجية، ولم تغادره سوى لتعود إلى بيت أخيها مطلقة، لم تكن الحرية سوى إمكانية النظر إلى الآخرين من شرفة بحرية وهم يعيشون ..ويسبحون ويتحمصون تحت الشمس نيابة عنها .
الحرية لم تكن أكثر من حقها في الحلم .
أما حريتي فقد جاءت معاكسة لمنطق حريتها . لقد أصبحت أنا امرأة حرة، فقط لأنني قررت أن أكف عن الحلم!
اكتشفت ذلك البارحة . عندما فتحت دفتري الأسود الذي أهملته بعض الشئ منذ قدومي، كي أسجل عليه أول فكرة توصلت إليها أخيراً:"الحرية أن لا تنتظر شيئا ".
وكان يمكن أن أكتب هذا في صيغة أخرى كأن أقول :"الترقب حالة عبودية ". فلقد توصلت إلى الأولى من خلال الثانية.
ولكن ما كدت أتحرر من عبودية الإنتظار، حتى وقعت في عبودية الكتابة. وهو ما جعل فريدة تجد في بقائي بالبيت، وعكوفي الدائم على الكتابة، علامات مثيرة للقلق.
وكانت تشعر تجاهي بمسؤولية مزدوجة . نظراً إلى سنها، وإلى كونها مكلفة من طرف أخيها بالسهر على صحتي . فراحت تغريني بمشاهدة التلفزيون، وتحثني على الخروج.
وهكذا قررت ذات عصر أن أخرج، هربًا من النوم والكتابة ، اللّذين يتناوبان عليّ في هذا الوقت بالذّات..
في الواقع، حيث كنت، حالةً من الضّجر الجسدي تنتابني كل ّيوم في توقيت القيلولة. وكيفما كان الطّقس، يطاردني هذا الإحساس حتى مجيء الغروب . ويضعني كل عصر أمام الأسئلة نفسها: ماذا يفعل الناس هذا الوقت بوقتهم.. وأجسادهم؟ وكيف ينفقون هذه الساعات؟ ولماذا؟ في العصر دون أيّ وقت آخر، ذبذبات عالية من الشّهوة تسيطر على تلك الغرف النسائية ، التي تنتقل فيها النساء بثياب البيت.. متكاسلات.. ضجرات؟
ولم يكن الوقت مناسبًا لأعثر على أجوبة لكلّ هذه الأسئلة. فاكتفيت بأن أرتدي أول فستان صادفني،
أذكر أنني اجتزت شارعنا بخطًى كسلى. رحت أتفرّج على تلك البيوت ذات النّوافذ الزرقاء..أو الخضراء، والّتي تعيش قيلولتها بسكينة لم أعهدها.
لاشيء كان يشبه هنا شوارع قسنطينة، المكتظة بالسّيارات والمارّة، وضجيج الحياة. كل شيء هنا جميل ونظيف، ومهندَس بذوق، وكأنه ينتمي إلى مدينة أخرى. أوكأنه وجد خطأً هنا.
ولولا وجود بعض السيارات على جانب رصيفه، ومرور أحدهم وهو عائد من مخبز، أو من ملعب "تينِس" ، لتوقّع المارّ من هنا أنّ لا أحد يسكن هذا الشارع.
فهذا الشارع، يستيقظ وينام بهدوء، وبحضارة لا علاقة لهما بصراخ الباعة والأطفال، ونداء المآذن التي تستيقظ عليها شوارع قسنطينة.
أمام مخبزة فاجئتني رائحة الخبز الطازّج. فدخلت مستسلمة لجوع مفاجىء. اخترت تشكيلة من قطع الحلوى، ورغيفين.
ثمّ تذكرت أنّ مشواري لم ينته . فطلبت من البائع أن يحتفظ لي بها. وواصلت جولتي بحثًا عن بائع الجرائد. حيث رحت أقلّبها بفضول من لم يطالعها منذ أسبوع.
كلّ شيء أصبح فجأة يغريني بالقراءة. وكأنني أستيقض هذا الصّباح لأكتشف العالم.
وأقتنيت مجلّة نسائيّة..وأخرى سياسية. وجرائد بالعربية وأخرى بالفرنسية. ولم أسأل نفسي إن كنت سأطالعها حقّاً. لذّتي كانت في اقتنائها. أنا التي كانت الجرائد تأتيني حتى الآن، مدفوعة ومنتقاة، حسب ذوق زوجي وإهتماماته!
أذكر أنني كنت أطالع إحداها، عندما جاءني من الخلف صوت يقول"دعي الجرائد..لا شيء يستحقّ القراءة هذه الأيام !".
رد: فوضى الحواس )"الفصل الثالث"( للكاتبة المتميزة >>أحلام مستغانمي <<
انتفضت ..والتفتُّ خلفي . وكان هو.
تسمّرت مكاني دهشة. تأمّلته غير مصدّقة. فاجأني صمت الارتباك الجميل فبقينا للحظات يتأمّل أحدنا الآخر بوقع المصادفة . أتوقع أنّ حمرةً قد علت وجنتيّ اللتين نسيت أن أضع عليهما حمرة، وأنني تلقائيّاً مددت يدي إلى شعري لأرفع خصلا ته، وأنه تماديًافي إرباكي، لم يخلع نظّاراته. وكأوّل مرة رّاح يتأمّلني.
قال فجأة:
_أعترف بأنني لم أتوقّع وجودك هنا..
قلت وكأنني أعتذر عن هيأتي:
_ولا أنا توقعت شيئًا كهذا..
واصل مبتسماً:
_أما قلت لك تعلّمي أن تثقي بالقدر؟
أجبت وقد استعدت صوتي:
_أذكر ذلك .. ولكن لنقل إنني أعاني أزمة ثقة..
بدا على صاحب المحلّ اهتمام خاص بحوارنا، نظراً إلى عدم وجود زبائن غيرنا. وتفاديًا لمزيد من فضوله، طلبت من محدثي أن يشتري جريدته ونغادر المكان.
ولكنّه ابتسم وقال:
أنا لم آت لأشتري جرائد.
سألته ونحن ننسحب:
_وماذا جئت تفعل إذن؟
قال:
_الآن بإمكاني أن أقول إنني جئت لأراك.. ولكنني جئت لأشتري سجائر لاغير.
ثم أضاف وهو يفتح علبة السجائر:
_أنا أيضًا..لم أعد أثق بشيء.
وأشعل سيجارته الأولى.
مشينا خطوات معًا، دون وجهة محددة، معرضين جنوننا للأنظار ثم توقفنا فجأة مثقلين بحمل الأسئلة.
أمسك فجأة بذراعي، وكأنه يريد أن يوقظني من حلم، كما يوقظ أحدهمىأولئك الذين يمشون أثناء نومهم.
وقال:
_أريد أن أراك..
تكهرب جسدي للمسته..
قلت:
_ولكن..
_ليس لهذه الكلمة من مكان بيننا. يكفي أنها تحيط بنا من كل جانب.
قلت:
لا أدري كيف يمكن أن يتم ذلك..
أخذ مني جريدة كنت أحملها. أخرج من جيبه العلوي قلم رصاص. وخطّ على طرفها رقم هاتف وقال:
_أطلبيني على ها الرقم، سنتفق على التفاصيل..
أخذت الجريدة منه ، وأنا لا أصدق ما يحدث لي. سألته بتلقائية مقصودة:
_ هذا الرقم.. رقم ماذا؟ أقصد هل هو رقم مكتب ام منزل؟
أجاب:
_إنه رقمي
قلت وأنا أستدرجه لمزيد من البوح:
_ولو حدث وردّ أحد على الهاتف.. أطلب منه التحدّث إلى من؟
قال متجاهلاً قصدي:
_لا أحد غيري يرد على الهاتف..
أغلق أمامي في جملة واحدة أي مجال لسؤال آخر ، وخاصة للسّؤال الأهم؛ فهذه المرة أيضًا لن أعرف اسمه..
افترقنا.
أنا بالارتباك نفسه، وهو بذلك الحضور الواثق نفسه. لم يلح لأتصل به في أقر ب وقت. وكأنه كان واثقاً من أن ذلك سيحدث. لم يسألني ما لذي جاء بي إلى هنا.. وإلى متى سأبقى؟ وكأن تلك التفاصيل لا تعنيه تماما, أو كأنه يعرف برنامجي كاملاً!
قال فقط:
- شهية أنت اليوم..
ثم أضاف ونظراته تتدحرج على ثوبي الأسود نفسه.
- أحبك في هذا الثوب..
ثم واصل بعد شيء من الصمت:
- وأحسده!
افترقنا دون وداع كما التقينا دون سلام. فهكذا تحدث الأشياء معه دائما.
لم يحاول أحدنا أن يستبقي الآخر, بكلمة إضافية, أو بنظرة. كان لنا إحساس مشترك بأننا على موعد أجمل.
وأعترف بأنني كنت أتمنى لو انه بقي أكثر, لو أنه قال لي أشياء اكثر. ولكنني تقبلت ذلك اللقاء, كما جاء. مدهشاً.. مباغتًا.. موجزًا.
لقاء في عمر سيجارة, أشعلها ونحن نلتقي, وأطفأها, وهو يسحقها أرضًا بحركة من قدمه قائلاً "أحسده!" ومضى.
هذا الرجل الذي يحسد فستاني الأبسط, ويباغتني بكلمة لم أتوقعها, تراه يعني ما يقول؟ أم أن مصادفة ارتدائي هذا الثوب نفسه, تثير فيه كل هذه الرغبة متوقعا أنني ارتديته لأستدرج القدر.
طبعًا, ليس هذا صحيحًا. ولو كان كذلك لتحضرت لهذا اللقاء بطريقة أفضل.
مدهش الحبّ. يأتي دائماً بغتة, في المكان واللحظة اللذين نتوقعهما الاقل, حتى إننا قلّما نستقبله في هيأة تليق به.
وأصدق تمامًا مصممة الأزياء "شانيل" التي كانت تنصح المرأة بأن تغادر كلّ يوم بيتها وهي في كل أناقتها, وكأنها ستلتقي ذلك اليوم بالرجل الذي سيغير حياتها, لأن ذلك سيحدث حتما في يوم تكون قد أهملت فيه هيأتها!
أهو الحب؟ كلمة منه فقط, وإذا بي امرأة لا تشبه الأخرى. تلك التي غادرت البيت بثوب عاديّ.. بأظافر غير مطلية.. وملامح مرهقة.
أعود إلى البيت أجمل, وإذا بالحياة أيضًا جميلة وشهية.
والأجمل أنها مدهشة دائمًا. في كلّ منعطف لشارع يمكن لحياتك أن تتغير. يمكن أن يقع لك حادث، ويمكن أيضًا أن تلتقي برجل يحدث فيك زلزالاً جميلاً!
في البيت وجدت فريدة جالسة أمام التلفزيون, وكأنها لم تقض حياتها امامه, لتشاهد المسلسلات الساذجة نفسها, أو كأنه لا ينتظرها في قسنطينة.
أشفقت عليها من غبائها.
كيف أشرح لها أن الإنسان، لا بد أن يعيش بملء رئتيه، بملء حواسه إحساسه, كلّ الأشياء التي يصادفها والتي لن تتكرر.
كيف أقنعها بأن تحب الأشياء التي لن تراها سوى مرة واحدة, لا تلك التي تراها على جهاز التلفزيون كلّ يوم.
كنت أشعر برغبة في أن أنقل إليها عدوى سعادتي, وشهيتي للحياة. ولكنها كانت امرأة محدودة الاحلام, محدودة الذكاء. فوجدت في سذاجتها نعمتي. فهي على الأقل لن تنتبه لما يحلّ بي.
رفعت رأسها عن الشاشة لتسألني, إن كنت فكرت في إحضار الخبز.
أجبتها بشهقة الدهشة, أنني نسيته عند الخباز.
فكّرت وأنا أنصرف نحو غرفتي لأغير ثيابي, أنني دخلت رسميّا مرحلة الحماقات الجميلة. وأنني إذا كنت قد نسيت حلويات قضيت نصف ساعة في اختيارها, فمن المتوقع أن أنسى بعد الآن أشياء أخرى، وأقيم في كوكب آخر، لا علاقة له بتفاصيل "عالمي الأرضي".
ما كدت أغير ثيابي حتى حملت جرائدي وذهبت نحو الحديقة, لا بنية مطالعتها, إنما بنية أن أخلو بنفسي لأتصفح قصتي مع هذا الرجل الذي طاردته لاهثة في شوارع قسنطينة.. وعندما يئست من أمره وسافرت, وجدته قد سبقني إلى هنا.
عجيبة هي الحياة بمنطقها المعاكس. أنت تركض خلف الأشياء لاهثاً، فتهرب الأشياء منك. وما تكاد تجلس وتقنع نفسك بأنها لا تستحق كل هذا الركض، حتى تأتيك هي لاهثة. وعندها لا تدري أيجب أن تدير لها ظهرك أم تفتح لها ذراعيك، وتتلقى هذه الهبة التي رمتها السماء إليك، والتي قد تكون فيها سعادتك، أو هلاكك؟
ذلك أنك لا يمكن ان لا تتذكر كل مرة تلك المقولة الجميلة لأوسكار وايلد "ثمة مصيبتان في الحياة: الأولى أن لا تحصل على ما تريده.. والثانية أن تحصل عليه!".
أتساءل، أي المصيبتين تراه هذا الرجل؟ وماذا لو عاد ليكون مصيبتي الثانية, بعدما كان مصيبتي الأولى؟
أتفقد الجريدة التي خطّ لي عليها رقم هاتفه، بقلم الرصاص.
أحاول أن أستشف قدري معه من تلك الأرقام. تخيفني الأصفار الكثيرة. ولكن باقي الأرقام تطمئنني فأنا أحب الأرقام الثلاثية الجذور.. أشعر أنها تشبهني. ولكن لا أمنع نفسي من التساؤل لماذا خطها بقلم الرصاص؟ ألأن الرسامين يكتبون عادة بقلم الرصاص؟
أم لأن الأشياء معه قابلة لأن تمحى في أية لحظة؟ أم لأنه زمن الرصاص لا غير, الرصاص الذي يكتب قصة ويلغي أخرى. الدليل أن رقم هاتفه جاء مكتوبا على هامش صغير للبياض، في الصفحة الأولى لجريدة تغطيها أخبار الفجائع الوطنية.. والقومية.
لماذا يأتي حبه محاذيا لمآسي الوطن، وكانه لم يبق للحب في حياتنا، سوى الماحة الصغيرة التي تكاد لا ترى على صفحة ايامنا. ألم يعد هناك من مكان لحب طبيعي وسعيد في هذا البلد؟
الفرح يسكنني. وجرائد الحزن تتربص بي ملقاة على طاولة الحديقة. قبل ان اتصفحها أندم على إحضارها. أتذكر ذلك الذي كان يقول "لم يحدث أن اشتريت جريدة عربية إلا وندمت على اقتنائي لها..".
أستعجل قلب صفحاتها. أخاف أن تغير أخبارها مزاجي. ولكن بعض عناوينها الكبرى تستوقفني وتستدرجني إلى قراءتها جميعها من باب المازوشية!
أن تشتري جريدة عربية ذات حزيران من سنة 1991 لتقرأ طالع هذه الأمة، فأنت تعرض نفسك لذبحة قلبية.
أما أن تشتري جريدة جزائرية في ذلك التاريخ نفسه, تجمع صفحتها الأولى بين خيباتك الوطنية والقومية فذلك ضرب من المجازفة بعقلك.
قبل أن تفتح الجريدة, يهجم عليك الوطن بعناوينه الكبرى، "السلطات العسكرية تعلّق حظر التجوّل إلى ما بعد عيد الأضحى" "اعتقال 469 شخصا خلال الأيام الثلاثة الماضية" "جبهة الانقاذ تعلن العصيان المدني، وبدء الإضراب والاعتصام المفتوح" "حضور عسكري مكثف حول المباني الرسمية والمساجد" "عملية للإستيلاء على الباصات التابعة للنقل الحضريّ استعدادا لمسيرة ضخمة على العاصمة".
تهرب إلى أسفل الصفحة فتنتظرك أوطان اخرى, كنت تعتقد أنها أوطانك. فهكذا أكد لك منذ طفولتك شاعر على قدر كبير من السذاجة، مات وهو ينشد "بلاد العرب أوطاني.." وهو لم يعد هنا اليوم ليقرأ معك عناوين جريدة عربية بتاريخ 15 حزيران 1991 "استمرار محاصرة مخيمي "الميه وميه" و "عين الحلوة" الفلسطينيين من طرف الجيش اللبناني" "العراق يقوم باعتقال عشرات المصريين وتعذيبهم"، "الإعدامات مستمرة في الكويت في حق الرعايا العرب"، "انفراد الشركات الأمريكية بإعادة اعمار الكويت"، "إسقاط ديون مصر".
والخبر السعيد في كلّ هذا، ليس الأخير. وإنما ستجده في صفحة داخلية بخط كبير. "إقدام الديوان الجزائري للحوم بمناسبة عيد الأضحى على استيراد 220 ألف رأس غنم من استراليا, وصلت معظمها سالمة". وسالمة تعني فقط أنها مازالت على قيد الحياة. رغم قضائها شهرا في البحر مكدسة في باخرة وأن معظمها لا ينتظر سوى رحمة الذبح صباح العيد, تماما كما ينتظر الجزائريين منذ أشهر، متزاحمين مكدسين بالعشرات امام سفارة استراليا، رحمة الحصول على تأشيرة الهروب إلى بلد، تقول إشاعة كاذبة إنه يبحث عن يد عاملة!
وتماشيا مع حدث وصول هذه الباخرة, بحمولتها المباركة من الأكباش, خصصت الجريدة صفحة كاملة, يتجادل فيها البعض ويجتهدون لحل الإشكال الديني الذي طرحته أذيال الأغنام الأسترالية المبتورة، التي لا تشبه ما تعوده الجزائريون من أغنام ذات ألية سمينة.
وهل تجوز التضحية بها؟ لينتهي بهم الأمر إلى فتوى تقول "إن بتر الذنب كله أو جزء منه، بمقدار الثلثين، يعد عيبا في الأضحية، سواء بتر الذنب كله أو بعضه، خلقة أو بعد خلقة" وليصبح السؤال بعد ذلك "ماذا نفعل إذن بالأغنام؟ وبماذا نضحي صباح العيد؟".
في الواقع، الإشكــــــال الحقيقي لم يكن في أذناب الأغنام الأسترالية، التي شغلت عامتنا وفقهائنا لأيام، وإنما في تلك الأكباش البشرية المكدسة أمام سفارة أستراليا، وفي سؤال كبير ومخيف:
كيف.. وقد كنا شعباً يصدر إلى العالم الثورة والأحلام, أصبحنا نصدّر البشر، ونستورد الأغنام؟
طبعًا..لم يكن زمنًا للحبّ ولكن أليست عظمة الحب في قدرته على الحياة في كل الأزمنة المضادّة؟
الدّليل أنّ لاشيء مما قرأته أو مما حدث لي بسبب هذا الرجل، فكرة أعدل عن فكرة حبّه.
شيء يجرفني نحوه هذا المساء. شيء يحملني. شيء يركض بي. شيء يجلسني جوار هاتف.
على حافة السرير أجلس ، دون أن أجلس تمامًا. وكأننّي أجلس على حافّة قدري.
امرأة ليست أنا، تطلب رجلاً قد يكون "هو". ورجل اسمه "هو"، يرتدي أخيرًا كلماته، لا كلماتي. يصبح صوتًا هاتفيّاً. قد يقول "ألو". قد يقول"نعم" قد يقول" من؟".
امرأة عجلى تطلب أرقامه الستة. وتنتظر كلمة منه؟ تقرر هكذا أن تبادره بالصّمت. وكأنها تتذكر أنها لا تعرف هي من تطلب بالتحديد.
صوته يخترق صمتها. لا يقول" ألو". لا يقول "نعم". لا يقول "من؟".
يقول:
_كيف أنتِ؟
يواصل أمام دهشتها.
_انتظرت هاتفك.
يضع شيئًا من الصمت بين الكلمات يواصل:
_جميل أن يأتي هاتفك ليلاً..
هي لم تقل شيئًا بعد .. وهو يتحدث إليها كأنه يراها بتداخل الحواسّ.. صوته يختزل المسافة بين حاسّة وأخرى. يعيد تنقيط الجمل. بعد تنقيط الأحلام.
تعرفه من نقاط الانقطاع في كلامه. تعرفه، وتحبه بنبرته الهاتفية الجديدة، دافئًا، كسولاً.
تقول له أول جملة تخطر في ذهنها:
_أحب صوتك
يجيب:
_وأحب صمتك..
_هل أفهم أنّك لا تحب كلامي؟
_بل أريد أن أسمع منك ما أشاء ، لا ما تقولين.
_ولكنّني لم أقل شيئًا بعد.
_هذا أجمل. أتدرين أن الحيوانات لا تكذب لأنّها لا تتكلّم. وحده الإنسان ينافق. لأنه حيوان ناطق.. أي حيوان ممثل.
_بأي حقّ تقول هذا؟
_بحق معرفتي بالحياة .. وحق معرفتي بك.
_وماذا تعرف عني؟
_أعرف ما يكفي لأحذرك .. وما يكفي أيضًا لأحبك.
_وهل يجب أن أحذرك أيضًا؟
_بل يجب أن تحذري الحب.. وتحبيني
_ولكننّي أحبك
_حقّاً؟
_....
_لاحظي أنكِ بدأتِ تتراجعين صمتًا. الكلمات الجميلة سريعة العطب . ولذا لا يمكن لفظها كيفما اتفق!
لا تدري كيف تواصل الحديث إليه. وكل ما ستقوله سيصطدم بذكائه الحادّ. وبنظرته الفريدة إلى الأشياء.. تقول:
_أريد أن أتعلم منك فلسفتك في الحياة.
يضحك:
_أنا.. أعلمك فلسفة الحياة؟ أنت تطلبين أمرًا مستحيلاً. أنا أعطيك رؤوس أقلامٍ فقط. نحن لا نتعلم الحياة من الآخرين. نتعلمها من خدوشنا.. ومن كل ما يبقى منا أرضًا بعد سقوطنا ووقوفنا.
_وهل يحدث هذا دومًا؟
_طبعًا.. ستتعلمين كيف تتخلين كل مرة عن شيء منك، كيف تتركين خلفك كل مرة أحدًا..أو مبدأً..أو حلمًا. نحن نأتي الحياة كمن ينقل أثاثه وأشياءه. محملين بالمباديء.. مثقلين بالأحلام.. محوّطين بالأهل ولأصدقاء. ثم كلما تقدم بنا السفر فقدنا شيئًا ، وتركنا خلفنا أحدًا، ليبقى لنا في النهاية ما نعتقده الأهم. والذي أصبح كذلك، لأنه تسلق سلم الأهميات، بعدما فقدنا ماكان أهم منه!
تجد في حديثه بعض ما يساعدها على استدراجه للحديث عن نفسه. تسأله:
_ماذا تركت خلفك؟
يصمت. ويطول صمته. تتذكر أنه يجيب هكذا عن الأسئلة التي لا تستحق الجواب . فتصحّح خطأها.
_أقصد.. وما هو الشّيء الأهم بالنسبة إليك الآن؟
يجيب بصوت غائب:
_أنتِ..
يفاجئها الجواب، وكأنها لم تكن تتوقعه، هي كانت تتوقع أن يسألها "وأنتِ؟" ولكنه لا يفعل.. يواصل:
_سأنتظر موت الأوهام حولك. فربما يومها أصبح الأول في سلّم أولويّاتك عن جدارة.. أو عن مصادفة!
تقاطعه:
_لست في حاجة إلى خيبات أكثر لأحبك. أنا لا أملك غيرك.
_بل أنت تملكين الكتابة، أيْ وهم التّفوق. ولن نتساوى إلا عندما تكتب قصتنا الحياة.. لا أنتِ!
تسأله:
_أعدت بنيّة معاكستي..؟
_بل عدت بنية حبك. افتقدتك كثيرًا كل هذا الوقت. لا أفهم لماذا جاءت قصتنا معقدة إلى هذا الحدّ. أتدرين؟ لو كنّا أمّيّين لسعدنا بحبّنا. الأميّ يعرف ما يريده من امرأة، وتعرف هي ما تنتظره منه. ولكن نحن استهوتنا لعبة الكلمات. فرحنا نقسو على الحب إكرامًا للأدب. تصوّري.. لو كنّا أمّيّين لقلت لك من البدء "أشتهيك" وانتهى الأمر. ولكن، هانحن بعد منتصف الّليل نتحدث على الهاتف لا لنحبّ بعضنا بعضًا.. وإنّما لنفسّر هذا الحب .
_لنكن أمّيّين إذن!
_لا نستطيع .. الجهل ترف لم يعد في متناولنا.
_وماذا نفعل إذن؟
_لنكن رجلاً وامرأة لا غير. لنحب بعضنا بعضًا بمنطق الحبّ، لا بمنطق الأدب. لا يمكن أن نخرج من عتمة الحبر لندخل عتمة الليل. أطالب لحبنا بشرعيّة الضّوء. أريد أن أراكِ..أن ألمسك.. أن أقول لك أشياء دون أن نكون مجبرين على الكلام.
_ولكنّني لا أدري أين يمكن أن نلتقي؟
_ثمّة مقاهٍ ومطاعم جميلة حيث أنتِ.. يمكن أن تتقي فيها.
_ولكن كلّ جيراني هم من الضّبّاط.. وهم يعرفون زوجي. ولا يمكن أن أجازف بموعد هنا.
يصمت بعض الوقت ثم يقول:
_إذا شئت بإمكاننا أن تلتقي عندي في البيت. ولكنّي أسكن في العاصمة. على بعد ساعة منك بالسّيارة.. لا أدري إن كان هذا يناسبك؟
أقول:
_دع لي يومًا للتفكير.. سأتدبّر الأمر.
ثم أواصل كمن تذكّر شيئًا:
_ولكن قبل ذلك.. أريد أن أعرف من تكون.
يجيب وكأن السؤال ليس على هذا القدر من الأهمّية:
_أحبّيني دون أسئلة.. فليس للحب أجوبة منطقيّة.
_ولكن كيف تريد أن أزور رجلاً لا أعرف حتّى اسمه؟
_ستعرفين كل شيء في الوقت المناسب .
_ولكنّني امرأة لا تعرف الانتظار.
_خسارة.. لأن الأشياء تأخذ قيمتها من انتظارنا لها.
ثم يواصل:
_وبهذا المقياس أنت المرأة الأشهى، لأنك المرأة الّتي انتظرتها الأكثر. لقد انتظرتك عمرًا، وبإمكانك أن تنتظري أيامًا أو أسابيع. دعي للوهم عمرًا أطول.
لا أذكر ماذا قال بعد ذلك، كي تفاجئنا حالة لغويّة زجّت بنا في رغبة مباغتة، عمد إلى تمديدها إلى أقصاها دون جهدٍ واضح، عدا جهد رغبته في التساوي بأي رجلٍ أمّي.. يشتهي امرأة!
استيقظت في اليوم التالي مأخوذة بحالة عشقيّة، لولا أن نشرة الأخبار الصباحيّة عكّرت مزاجي.. فقررت أن أطلب زوجي لأعرف منه ما يحدث في قسنطينة.
ولكنّني فوجئت بالهاتف معطّلاً، وهو ما زاد قلقلي وجعلني أتّجه نحو أول فيلاّ مجاورة. لاستعمال هاتفهم.
ولكن صاحبة البيت استقبلتني ببرود، وهي تتفحصني بنظرة لا تخلو من الإهانة. وهو ما زاد في إرباكي. وجعلني أفسر نظراتها في البدء بكوني جئتها في ثياب البيت.. وربما في زيّ غير لائق بزيارة.
أمام الباب الذي فتحته لي دون أ ن تدعوني إلى الدخول ، رحت أشرح لها أنني أسكن الفيلا المجاورة وأن هاتفي معطل.
وقبل أن أواصل ، قالت وهي تقاطعني بلهجة لا تخلو من لومِ نسائي:
أنت الجارة الجديدة.." كل يوم عند العازبة عرس"!
أجبتها وأنا أتوقع أنها تخلط بيني وبين أخرى:
_أنا أسكن في الفيلا 68 على يمينكم. وموجودة هنا منذ أسبوع فقط.
أجابت بلهجة ساخرة:
_عادة تبقى النساء هنا.. ليلة أو ليلتين لا أكثر!
تجمدت مكاني. وكأن كلماتها صفعتني. ولكنني جمعت شجاعتي . وقلت:
_أنا زوجة العميد... جئت لأسألك فقط عن سبب تعطل الهاتف لأنني لم أتمكن من الاتصال بزوج في قسنطينة. ولا علم لي بما يحدث في هذا البيت قبل مجيئي.
تسمّرت مكاني دهشة. تأمّلته غير مصدّقة. فاجأني صمت الارتباك الجميل فبقينا للحظات يتأمّل أحدنا الآخر بوقع المصادفة . أتوقع أنّ حمرةً قد علت وجنتيّ اللتين نسيت أن أضع عليهما حمرة، وأنني تلقائيّاً مددت يدي إلى شعري لأرفع خصلا ته، وأنه تماديًافي إرباكي، لم يخلع نظّاراته. وكأوّل مرة رّاح يتأمّلني.
قال فجأة:
_أعترف بأنني لم أتوقّع وجودك هنا..
قلت وكأنني أعتذر عن هيأتي:
_ولا أنا توقعت شيئًا كهذا..
واصل مبتسماً:
_أما قلت لك تعلّمي أن تثقي بالقدر؟
أجبت وقد استعدت صوتي:
_أذكر ذلك .. ولكن لنقل إنني أعاني أزمة ثقة..
بدا على صاحب المحلّ اهتمام خاص بحوارنا، نظراً إلى عدم وجود زبائن غيرنا. وتفاديًا لمزيد من فضوله، طلبت من محدثي أن يشتري جريدته ونغادر المكان.
ولكنّه ابتسم وقال:
أنا لم آت لأشتري جرائد.
سألته ونحن ننسحب:
_وماذا جئت تفعل إذن؟
قال:
_الآن بإمكاني أن أقول إنني جئت لأراك.. ولكنني جئت لأشتري سجائر لاغير.
ثم أضاف وهو يفتح علبة السجائر:
_أنا أيضًا..لم أعد أثق بشيء.
وأشعل سيجارته الأولى.
مشينا خطوات معًا، دون وجهة محددة، معرضين جنوننا للأنظار ثم توقفنا فجأة مثقلين بحمل الأسئلة.
أمسك فجأة بذراعي، وكأنه يريد أن يوقظني من حلم، كما يوقظ أحدهمىأولئك الذين يمشون أثناء نومهم.
وقال:
_أريد أن أراك..
تكهرب جسدي للمسته..
قلت:
_ولكن..
_ليس لهذه الكلمة من مكان بيننا. يكفي أنها تحيط بنا من كل جانب.
قلت:
لا أدري كيف يمكن أن يتم ذلك..
أخذ مني جريدة كنت أحملها. أخرج من جيبه العلوي قلم رصاص. وخطّ على طرفها رقم هاتف وقال:
_أطلبيني على ها الرقم، سنتفق على التفاصيل..
أخذت الجريدة منه ، وأنا لا أصدق ما يحدث لي. سألته بتلقائية مقصودة:
_ هذا الرقم.. رقم ماذا؟ أقصد هل هو رقم مكتب ام منزل؟
أجاب:
_إنه رقمي
قلت وأنا أستدرجه لمزيد من البوح:
_ولو حدث وردّ أحد على الهاتف.. أطلب منه التحدّث إلى من؟
قال متجاهلاً قصدي:
_لا أحد غيري يرد على الهاتف..
أغلق أمامي في جملة واحدة أي مجال لسؤال آخر ، وخاصة للسّؤال الأهم؛ فهذه المرة أيضًا لن أعرف اسمه..
افترقنا.
أنا بالارتباك نفسه، وهو بذلك الحضور الواثق نفسه. لم يلح لأتصل به في أقر ب وقت. وكأنه كان واثقاً من أن ذلك سيحدث. لم يسألني ما لذي جاء بي إلى هنا.. وإلى متى سأبقى؟ وكأن تلك التفاصيل لا تعنيه تماما, أو كأنه يعرف برنامجي كاملاً!
قال فقط:
- شهية أنت اليوم..
ثم أضاف ونظراته تتدحرج على ثوبي الأسود نفسه.
- أحبك في هذا الثوب..
ثم واصل بعد شيء من الصمت:
- وأحسده!
افترقنا دون وداع كما التقينا دون سلام. فهكذا تحدث الأشياء معه دائما.
لم يحاول أحدنا أن يستبقي الآخر, بكلمة إضافية, أو بنظرة. كان لنا إحساس مشترك بأننا على موعد أجمل.
وأعترف بأنني كنت أتمنى لو انه بقي أكثر, لو أنه قال لي أشياء اكثر. ولكنني تقبلت ذلك اللقاء, كما جاء. مدهشاً.. مباغتًا.. موجزًا.
لقاء في عمر سيجارة, أشعلها ونحن نلتقي, وأطفأها, وهو يسحقها أرضًا بحركة من قدمه قائلاً "أحسده!" ومضى.
هذا الرجل الذي يحسد فستاني الأبسط, ويباغتني بكلمة لم أتوقعها, تراه يعني ما يقول؟ أم أن مصادفة ارتدائي هذا الثوب نفسه, تثير فيه كل هذه الرغبة متوقعا أنني ارتديته لأستدرج القدر.
طبعًا, ليس هذا صحيحًا. ولو كان كذلك لتحضرت لهذا اللقاء بطريقة أفضل.
مدهش الحبّ. يأتي دائماً بغتة, في المكان واللحظة اللذين نتوقعهما الاقل, حتى إننا قلّما نستقبله في هيأة تليق به.
وأصدق تمامًا مصممة الأزياء "شانيل" التي كانت تنصح المرأة بأن تغادر كلّ يوم بيتها وهي في كل أناقتها, وكأنها ستلتقي ذلك اليوم بالرجل الذي سيغير حياتها, لأن ذلك سيحدث حتما في يوم تكون قد أهملت فيه هيأتها!
أهو الحب؟ كلمة منه فقط, وإذا بي امرأة لا تشبه الأخرى. تلك التي غادرت البيت بثوب عاديّ.. بأظافر غير مطلية.. وملامح مرهقة.
أعود إلى البيت أجمل, وإذا بالحياة أيضًا جميلة وشهية.
والأجمل أنها مدهشة دائمًا. في كلّ منعطف لشارع يمكن لحياتك أن تتغير. يمكن أن يقع لك حادث، ويمكن أيضًا أن تلتقي برجل يحدث فيك زلزالاً جميلاً!
في البيت وجدت فريدة جالسة أمام التلفزيون, وكأنها لم تقض حياتها امامه, لتشاهد المسلسلات الساذجة نفسها, أو كأنه لا ينتظرها في قسنطينة.
أشفقت عليها من غبائها.
كيف أشرح لها أن الإنسان، لا بد أن يعيش بملء رئتيه، بملء حواسه إحساسه, كلّ الأشياء التي يصادفها والتي لن تتكرر.
كيف أقنعها بأن تحب الأشياء التي لن تراها سوى مرة واحدة, لا تلك التي تراها على جهاز التلفزيون كلّ يوم.
كنت أشعر برغبة في أن أنقل إليها عدوى سعادتي, وشهيتي للحياة. ولكنها كانت امرأة محدودة الاحلام, محدودة الذكاء. فوجدت في سذاجتها نعمتي. فهي على الأقل لن تنتبه لما يحلّ بي.
رفعت رأسها عن الشاشة لتسألني, إن كنت فكرت في إحضار الخبز.
أجبتها بشهقة الدهشة, أنني نسيته عند الخباز.
فكّرت وأنا أنصرف نحو غرفتي لأغير ثيابي, أنني دخلت رسميّا مرحلة الحماقات الجميلة. وأنني إذا كنت قد نسيت حلويات قضيت نصف ساعة في اختيارها, فمن المتوقع أن أنسى بعد الآن أشياء أخرى، وأقيم في كوكب آخر، لا علاقة له بتفاصيل "عالمي الأرضي".
ما كدت أغير ثيابي حتى حملت جرائدي وذهبت نحو الحديقة, لا بنية مطالعتها, إنما بنية أن أخلو بنفسي لأتصفح قصتي مع هذا الرجل الذي طاردته لاهثة في شوارع قسنطينة.. وعندما يئست من أمره وسافرت, وجدته قد سبقني إلى هنا.
عجيبة هي الحياة بمنطقها المعاكس. أنت تركض خلف الأشياء لاهثاً، فتهرب الأشياء منك. وما تكاد تجلس وتقنع نفسك بأنها لا تستحق كل هذا الركض، حتى تأتيك هي لاهثة. وعندها لا تدري أيجب أن تدير لها ظهرك أم تفتح لها ذراعيك، وتتلقى هذه الهبة التي رمتها السماء إليك، والتي قد تكون فيها سعادتك، أو هلاكك؟
ذلك أنك لا يمكن ان لا تتذكر كل مرة تلك المقولة الجميلة لأوسكار وايلد "ثمة مصيبتان في الحياة: الأولى أن لا تحصل على ما تريده.. والثانية أن تحصل عليه!".
أتساءل، أي المصيبتين تراه هذا الرجل؟ وماذا لو عاد ليكون مصيبتي الثانية, بعدما كان مصيبتي الأولى؟
أتفقد الجريدة التي خطّ لي عليها رقم هاتفه، بقلم الرصاص.
أحاول أن أستشف قدري معه من تلك الأرقام. تخيفني الأصفار الكثيرة. ولكن باقي الأرقام تطمئنني فأنا أحب الأرقام الثلاثية الجذور.. أشعر أنها تشبهني. ولكن لا أمنع نفسي من التساؤل لماذا خطها بقلم الرصاص؟ ألأن الرسامين يكتبون عادة بقلم الرصاص؟
أم لأن الأشياء معه قابلة لأن تمحى في أية لحظة؟ أم لأنه زمن الرصاص لا غير, الرصاص الذي يكتب قصة ويلغي أخرى. الدليل أن رقم هاتفه جاء مكتوبا على هامش صغير للبياض، في الصفحة الأولى لجريدة تغطيها أخبار الفجائع الوطنية.. والقومية.
لماذا يأتي حبه محاذيا لمآسي الوطن، وكانه لم يبق للحب في حياتنا، سوى الماحة الصغيرة التي تكاد لا ترى على صفحة ايامنا. ألم يعد هناك من مكان لحب طبيعي وسعيد في هذا البلد؟
الفرح يسكنني. وجرائد الحزن تتربص بي ملقاة على طاولة الحديقة. قبل ان اتصفحها أندم على إحضارها. أتذكر ذلك الذي كان يقول "لم يحدث أن اشتريت جريدة عربية إلا وندمت على اقتنائي لها..".
أستعجل قلب صفحاتها. أخاف أن تغير أخبارها مزاجي. ولكن بعض عناوينها الكبرى تستوقفني وتستدرجني إلى قراءتها جميعها من باب المازوشية!
أن تشتري جريدة عربية ذات حزيران من سنة 1991 لتقرأ طالع هذه الأمة، فأنت تعرض نفسك لذبحة قلبية.
أما أن تشتري جريدة جزائرية في ذلك التاريخ نفسه, تجمع صفحتها الأولى بين خيباتك الوطنية والقومية فذلك ضرب من المجازفة بعقلك.
قبل أن تفتح الجريدة, يهجم عليك الوطن بعناوينه الكبرى، "السلطات العسكرية تعلّق حظر التجوّل إلى ما بعد عيد الأضحى" "اعتقال 469 شخصا خلال الأيام الثلاثة الماضية" "جبهة الانقاذ تعلن العصيان المدني، وبدء الإضراب والاعتصام المفتوح" "حضور عسكري مكثف حول المباني الرسمية والمساجد" "عملية للإستيلاء على الباصات التابعة للنقل الحضريّ استعدادا لمسيرة ضخمة على العاصمة".
تهرب إلى أسفل الصفحة فتنتظرك أوطان اخرى, كنت تعتقد أنها أوطانك. فهكذا أكد لك منذ طفولتك شاعر على قدر كبير من السذاجة، مات وهو ينشد "بلاد العرب أوطاني.." وهو لم يعد هنا اليوم ليقرأ معك عناوين جريدة عربية بتاريخ 15 حزيران 1991 "استمرار محاصرة مخيمي "الميه وميه" و "عين الحلوة" الفلسطينيين من طرف الجيش اللبناني" "العراق يقوم باعتقال عشرات المصريين وتعذيبهم"، "الإعدامات مستمرة في الكويت في حق الرعايا العرب"، "انفراد الشركات الأمريكية بإعادة اعمار الكويت"، "إسقاط ديون مصر".
والخبر السعيد في كلّ هذا، ليس الأخير. وإنما ستجده في صفحة داخلية بخط كبير. "إقدام الديوان الجزائري للحوم بمناسبة عيد الأضحى على استيراد 220 ألف رأس غنم من استراليا, وصلت معظمها سالمة". وسالمة تعني فقط أنها مازالت على قيد الحياة. رغم قضائها شهرا في البحر مكدسة في باخرة وأن معظمها لا ينتظر سوى رحمة الذبح صباح العيد, تماما كما ينتظر الجزائريين منذ أشهر، متزاحمين مكدسين بالعشرات امام سفارة استراليا، رحمة الحصول على تأشيرة الهروب إلى بلد، تقول إشاعة كاذبة إنه يبحث عن يد عاملة!
وتماشيا مع حدث وصول هذه الباخرة, بحمولتها المباركة من الأكباش, خصصت الجريدة صفحة كاملة, يتجادل فيها البعض ويجتهدون لحل الإشكال الديني الذي طرحته أذيال الأغنام الأسترالية المبتورة، التي لا تشبه ما تعوده الجزائريون من أغنام ذات ألية سمينة.
وهل تجوز التضحية بها؟ لينتهي بهم الأمر إلى فتوى تقول "إن بتر الذنب كله أو جزء منه، بمقدار الثلثين، يعد عيبا في الأضحية، سواء بتر الذنب كله أو بعضه، خلقة أو بعد خلقة" وليصبح السؤال بعد ذلك "ماذا نفعل إذن بالأغنام؟ وبماذا نضحي صباح العيد؟".
في الواقع، الإشكــــــال الحقيقي لم يكن في أذناب الأغنام الأسترالية، التي شغلت عامتنا وفقهائنا لأيام، وإنما في تلك الأكباش البشرية المكدسة أمام سفارة أستراليا، وفي سؤال كبير ومخيف:
كيف.. وقد كنا شعباً يصدر إلى العالم الثورة والأحلام, أصبحنا نصدّر البشر، ونستورد الأغنام؟
طبعًا..لم يكن زمنًا للحبّ ولكن أليست عظمة الحب في قدرته على الحياة في كل الأزمنة المضادّة؟
الدّليل أنّ لاشيء مما قرأته أو مما حدث لي بسبب هذا الرجل، فكرة أعدل عن فكرة حبّه.
شيء يجرفني نحوه هذا المساء. شيء يحملني. شيء يركض بي. شيء يجلسني جوار هاتف.
على حافة السرير أجلس ، دون أن أجلس تمامًا. وكأننّي أجلس على حافّة قدري.
امرأة ليست أنا، تطلب رجلاً قد يكون "هو". ورجل اسمه "هو"، يرتدي أخيرًا كلماته، لا كلماتي. يصبح صوتًا هاتفيّاً. قد يقول "ألو". قد يقول"نعم" قد يقول" من؟".
امرأة عجلى تطلب أرقامه الستة. وتنتظر كلمة منه؟ تقرر هكذا أن تبادره بالصّمت. وكأنها تتذكر أنها لا تعرف هي من تطلب بالتحديد.
صوته يخترق صمتها. لا يقول" ألو". لا يقول "نعم". لا يقول "من؟".
يقول:
_كيف أنتِ؟
يواصل أمام دهشتها.
_انتظرت هاتفك.
يضع شيئًا من الصمت بين الكلمات يواصل:
_جميل أن يأتي هاتفك ليلاً..
هي لم تقل شيئًا بعد .. وهو يتحدث إليها كأنه يراها بتداخل الحواسّ.. صوته يختزل المسافة بين حاسّة وأخرى. يعيد تنقيط الجمل. بعد تنقيط الأحلام.
تعرفه من نقاط الانقطاع في كلامه. تعرفه، وتحبه بنبرته الهاتفية الجديدة، دافئًا، كسولاً.
تقول له أول جملة تخطر في ذهنها:
_أحب صوتك
يجيب:
_وأحب صمتك..
_هل أفهم أنّك لا تحب كلامي؟
_بل أريد أن أسمع منك ما أشاء ، لا ما تقولين.
_ولكنّني لم أقل شيئًا بعد.
_هذا أجمل. أتدرين أن الحيوانات لا تكذب لأنّها لا تتكلّم. وحده الإنسان ينافق. لأنه حيوان ناطق.. أي حيوان ممثل.
_بأي حقّ تقول هذا؟
_بحق معرفتي بالحياة .. وحق معرفتي بك.
_وماذا تعرف عني؟
_أعرف ما يكفي لأحذرك .. وما يكفي أيضًا لأحبك.
_وهل يجب أن أحذرك أيضًا؟
_بل يجب أن تحذري الحب.. وتحبيني
_ولكننّي أحبك
_حقّاً؟
_....
_لاحظي أنكِ بدأتِ تتراجعين صمتًا. الكلمات الجميلة سريعة العطب . ولذا لا يمكن لفظها كيفما اتفق!
لا تدري كيف تواصل الحديث إليه. وكل ما ستقوله سيصطدم بذكائه الحادّ. وبنظرته الفريدة إلى الأشياء.. تقول:
_أريد أن أتعلم منك فلسفتك في الحياة.
يضحك:
_أنا.. أعلمك فلسفة الحياة؟ أنت تطلبين أمرًا مستحيلاً. أنا أعطيك رؤوس أقلامٍ فقط. نحن لا نتعلم الحياة من الآخرين. نتعلمها من خدوشنا.. ومن كل ما يبقى منا أرضًا بعد سقوطنا ووقوفنا.
_وهل يحدث هذا دومًا؟
_طبعًا.. ستتعلمين كيف تتخلين كل مرة عن شيء منك، كيف تتركين خلفك كل مرة أحدًا..أو مبدأً..أو حلمًا. نحن نأتي الحياة كمن ينقل أثاثه وأشياءه. محملين بالمباديء.. مثقلين بالأحلام.. محوّطين بالأهل ولأصدقاء. ثم كلما تقدم بنا السفر فقدنا شيئًا ، وتركنا خلفنا أحدًا، ليبقى لنا في النهاية ما نعتقده الأهم. والذي أصبح كذلك، لأنه تسلق سلم الأهميات، بعدما فقدنا ماكان أهم منه!
تجد في حديثه بعض ما يساعدها على استدراجه للحديث عن نفسه. تسأله:
_ماذا تركت خلفك؟
يصمت. ويطول صمته. تتذكر أنه يجيب هكذا عن الأسئلة التي لا تستحق الجواب . فتصحّح خطأها.
_أقصد.. وما هو الشّيء الأهم بالنسبة إليك الآن؟
يجيب بصوت غائب:
_أنتِ..
يفاجئها الجواب، وكأنها لم تكن تتوقعه، هي كانت تتوقع أن يسألها "وأنتِ؟" ولكنه لا يفعل.. يواصل:
_سأنتظر موت الأوهام حولك. فربما يومها أصبح الأول في سلّم أولويّاتك عن جدارة.. أو عن مصادفة!
تقاطعه:
_لست في حاجة إلى خيبات أكثر لأحبك. أنا لا أملك غيرك.
_بل أنت تملكين الكتابة، أيْ وهم التّفوق. ولن نتساوى إلا عندما تكتب قصتنا الحياة.. لا أنتِ!
تسأله:
_أعدت بنيّة معاكستي..؟
_بل عدت بنية حبك. افتقدتك كثيرًا كل هذا الوقت. لا أفهم لماذا جاءت قصتنا معقدة إلى هذا الحدّ. أتدرين؟ لو كنّا أمّيّين لسعدنا بحبّنا. الأميّ يعرف ما يريده من امرأة، وتعرف هي ما تنتظره منه. ولكن نحن استهوتنا لعبة الكلمات. فرحنا نقسو على الحب إكرامًا للأدب. تصوّري.. لو كنّا أمّيّين لقلت لك من البدء "أشتهيك" وانتهى الأمر. ولكن، هانحن بعد منتصف الّليل نتحدث على الهاتف لا لنحبّ بعضنا بعضًا.. وإنّما لنفسّر هذا الحب .
_لنكن أمّيّين إذن!
_لا نستطيع .. الجهل ترف لم يعد في متناولنا.
_وماذا نفعل إذن؟
_لنكن رجلاً وامرأة لا غير. لنحب بعضنا بعضًا بمنطق الحبّ، لا بمنطق الأدب. لا يمكن أن نخرج من عتمة الحبر لندخل عتمة الليل. أطالب لحبنا بشرعيّة الضّوء. أريد أن أراكِ..أن ألمسك.. أن أقول لك أشياء دون أن نكون مجبرين على الكلام.
_ولكنّني لا أدري أين يمكن أن نلتقي؟
_ثمّة مقاهٍ ومطاعم جميلة حيث أنتِ.. يمكن أن تتقي فيها.
_ولكن كلّ جيراني هم من الضّبّاط.. وهم يعرفون زوجي. ولا يمكن أن أجازف بموعد هنا.
يصمت بعض الوقت ثم يقول:
_إذا شئت بإمكاننا أن تلتقي عندي في البيت. ولكنّي أسكن في العاصمة. على بعد ساعة منك بالسّيارة.. لا أدري إن كان هذا يناسبك؟
أقول:
_دع لي يومًا للتفكير.. سأتدبّر الأمر.
ثم أواصل كمن تذكّر شيئًا:
_ولكن قبل ذلك.. أريد أن أعرف من تكون.
يجيب وكأن السؤال ليس على هذا القدر من الأهمّية:
_أحبّيني دون أسئلة.. فليس للحب أجوبة منطقيّة.
_ولكن كيف تريد أن أزور رجلاً لا أعرف حتّى اسمه؟
_ستعرفين كل شيء في الوقت المناسب .
_ولكنّني امرأة لا تعرف الانتظار.
_خسارة.. لأن الأشياء تأخذ قيمتها من انتظارنا لها.
ثم يواصل:
_وبهذا المقياس أنت المرأة الأشهى، لأنك المرأة الّتي انتظرتها الأكثر. لقد انتظرتك عمرًا، وبإمكانك أن تنتظري أيامًا أو أسابيع. دعي للوهم عمرًا أطول.
لا أذكر ماذا قال بعد ذلك، كي تفاجئنا حالة لغويّة زجّت بنا في رغبة مباغتة، عمد إلى تمديدها إلى أقصاها دون جهدٍ واضح، عدا جهد رغبته في التساوي بأي رجلٍ أمّي.. يشتهي امرأة!
استيقظت في اليوم التالي مأخوذة بحالة عشقيّة، لولا أن نشرة الأخبار الصباحيّة عكّرت مزاجي.. فقررت أن أطلب زوجي لأعرف منه ما يحدث في قسنطينة.
ولكنّني فوجئت بالهاتف معطّلاً، وهو ما زاد قلقلي وجعلني أتّجه نحو أول فيلاّ مجاورة. لاستعمال هاتفهم.
ولكن صاحبة البيت استقبلتني ببرود، وهي تتفحصني بنظرة لا تخلو من الإهانة. وهو ما زاد في إرباكي. وجعلني أفسر نظراتها في البدء بكوني جئتها في ثياب البيت.. وربما في زيّ غير لائق بزيارة.
أمام الباب الذي فتحته لي دون أ ن تدعوني إلى الدخول ، رحت أشرح لها أنني أسكن الفيلا المجاورة وأن هاتفي معطل.
وقبل أن أواصل ، قالت وهي تقاطعني بلهجة لا تخلو من لومِ نسائي:
أنت الجارة الجديدة.." كل يوم عند العازبة عرس"!
أجبتها وأنا أتوقع أنها تخلط بيني وبين أخرى:
_أنا أسكن في الفيلا 68 على يمينكم. وموجودة هنا منذ أسبوع فقط.
أجابت بلهجة ساخرة:
_عادة تبقى النساء هنا.. ليلة أو ليلتين لا أكثر!
تجمدت مكاني. وكأن كلماتها صفعتني. ولكنني جمعت شجاعتي . وقلت:
_أنا زوجة العميد... جئت لأسألك فقط عن سبب تعطل الهاتف لأنني لم أتمكن من الاتصال بزوج في قسنطينة. ولا علم لي بما يحدث في هذا البيت قبل مجيئي.
رد: فوضى الحواس )"الفصل الثالث"( للكاتبة المتميزة >>أحلام مستغانمي <<
بدا على المرأة ارتباك واضح. وراحت فجأة تفتح الباب، وتدعوني معتذرة إلى الدخول، وقد ندمت على ما قالته. معتقدة أنني إحدى الزائرات العابرات لهذا البيت، بعد أن شجعتها هيأتي الصباحية.. على مثل هذا الاعتقاد. وراحت تبحث عن كلمات تقنعني بها أنها توقعت أن أكو ن مقيمة في فيلا أخرى. وأنه نظرًا إلى خلو هذه الفيلات من المصطافين في باقي أيام السنة، تعود البعض اصطحاب عشيقاته وصديقاته إلى هنا، وهو أمر يزعجها لأنها تسكن هنا على مدار السنة.
أبديت لها تفهمي، واعتذرت لها عن الإزعاج وأنا أودعها بأدب. ولكنها ظلت تلح لأتصل بزوجي من بيتها. وقالت إن لا ضرورة لإزعاجه بمشكلة الهاتف. فسيتكفل زوجها بالاتصال بالجهات المعنية لإصلاحه فورًا.
عند عودتي لم أخبر فريدة بما قالته لي الجارة. احتفظت بتلك الإهانة بنفسي. وماذا عساها تقول وهي تحتفظ في أعماقها أن من حق أخيها أن يتصرف كيفما يشاء، ليس فقط لأنه رجل بل لأنه أيضًا رجل دولة.
العجيب أنني لم أشعر بالغيرة. إحساسي كان أقرب إلى الغثيان منه إلى إحساس آخر. فلم أشأ أن أفكر في النساء اللاتي تناوبن على هذا السرير. ولم أكلف نفسي مشقة وضع ملامح لوجوههن.
شكلهن لا يعنيني. فأنا أتصورهن من النوع الساقط والبذيء المظهر. وربما كن شقراوات مزيفات. عادة هذا النوع يروق لزوجي وربما كان يروق لكل الرجال. وهو أمر أتفهمه تمامًا.
ولكن مالا أفهمه،هو لماذا تزوج زوجي سمراء، إذا كان يحب الشقراوات؟ ولماذا تزوج مرة ثانية.. إذا كانت لا تشبعه سوى الوجبات التي يتناولها خارج البيت؟
أتذكر صديقة لي كان زوجها مغرمًا بالشقراوات. وكان يزعجها أن تطاردها الألسن هامسة دائمًا "لقد رأينا زوجك صحبة شقراء" فقامت المسكينة بصبغ شعرها .لا أملاً في إغرائه أو استعادته، وإنما حتى يبدو للناس ن بعيد أنه برفقتها. وكأن المهم في ذلك ، وإنما حتى يبدو للناس ن بعيد أنه برفقتها. وكأن المهم في هذه الحالات إنقاذ المظاهر!
أكبر عقاب حلّ بي يومها، لم يكن ما سمعته من تلك المرأة، وإنما عدم تمكني من سماع صوت ذلك الرجل.
في اليوم التالي، استيقظت على صوت زوجي الذي أعلن لي عودة الخط الهاتفي. جاء صوته ليخرجني من كوابيس ليلتي . ولكن من دون أن يوقظ الأحلام الجميلة داخلي.
للأحلام صوت داخلي. أسميته"هو". هو الذي لا اسم له. والذي ليس سوى حرفين للحب. تتناوب عليها حروف النهي وحروف النفي.. وحروف التحذير.. وحروف التساؤل.
"هو" ليس أكثر من "لا" و"لن" و"هل" و"لِمَ" .. و"متى؟"..و"كيف؟".
"هو" ليس أكثر من حرفين وستة أرقام. ليست أرقام هاتفه . إنها أرقام اليانصيب التي ألعب بها قدري.
_اشتقتك.. لِمَ لم تطلبيني البارحة؟
_كان الهاتف معطلاً..
_وهل حسمت أمر لقائنا؟
_أجل إذا كان يناسبك سأزورك اليوم بعد الظهر.
يضع شيئًا من الصمت بيننا ثم يقول:
_أنا ليس لي برنامج غيرك. وبإمكانك أن تأتي متى شئتِ، ولكن..
_ولكن ماذا..؟
_الوضع لا يوحي بالأمان اليوم.
أطمئنه:
_لا يمكن أن يكون أسوأ مما عرفته في قسنطينة.
يجيب:
_لا أعتقد أن تكوني عرفت شيئًا كهذا.
يثير فضولي. أسأله:
_مالذي يحدث؟
يجيب:
_لقد تحولت ساحات العاصمة في الليل إلى غرف نوم ضخمة. افترش فيها الإسلاميون الأرض. لا ينهضون منها إلا في الصباح لإطلاق الشعارات والتهديدات.. والأدعية إلى الله..
_ومتى حصل كل هذا؟
_البارحة.. لقد جاءت بهم الباصات بالعشرات حتى هنا. نساءً ورجالاً..
أسأله متعجبة:
_النساء أيضًا ؟
يجيب:
_لقد وصلن في أتوبيسات مسدلة الستائر. لا يبان منها إلا القرآن المرفوع خارج النوافذ.
أسأله وقد بدأت أفقد شيئًا من حماسي:
_وهل ما يحدث قريب منك؟
يجيب:
_طبعًا.. أنا أسكن شارع العربي بن مهيدي.. إنه شارع متفرع عن ساحة الأمير عبد القادر حيث يتم الاعتصام..
أقاطعه:
_أعرف هذا الشارع جيدًا.
كدت للحظة أتخلى عن مشروعي الجنوني. ولكنني كنت على درجة من الإحباط، أصبح معها عدم اللقاء به هو أسوأ ما يمكن أن يحدث لي.
توقعت أن أفاجئه وأنا أقول:
_سأسلك طريق البريد المركزي للوصول إليك. أعطني العنوان فقط.
ولكنه أجاب بفرح أسعدني:
_توقعت منك جوابا كهذا.. إنه يشبهك.
ثم واصل:
_أفهمت لماذا أحبك؟
قلت وأنا أمازحه:
لا.. لم أفهم . ستشرح لي ذلك عندما أجيء!
* * *
إنها الثالثة أخيرًا. أخيرًا إنها الثالثة.
أيها الحب تأخرت كثيرًا. فلماذا تستعجلني الآن إلى هذا الحد. وتركض بي في سيارة ستوصلني إلى منتصف الرغبة، لأواصل وحدي المشي لاهثة في شارع الخوف، متحايلة تارة على عيون سائق يحترف التجسس، وتارة على نظرات مارة متفرغين للفضول.
ولكن من يملك ما يكفي من الحدس، لقراءة خطى امرأة ذاهبة أو عائدة من موعد حب؟
ذلك أنه عكس كل الذين يملكون وقتًا كافيًا لتبذيره، الحب معك لا صبر له؛ يعلمك كل شيء دفعة واحدة، والشيء ونقيضه في تجربة واحدة.يعلمك أن تكون أنت وآخر في آن واحد. ويجعلك ممثلاً من الدرجة الأولى.
أجتاز ساحة الأمير عبد القادر راجلة بخطًى رصينة وداخل ثياب محتشمة. أتعلم المشي داخل هذه العباءة.. وهذا الشال الذي يغطي شعري، وكأنني لم أخلعهما يومًا.
أشعر بأمان، وسط عشرات الرجال ذوي الأزياء العجيبة والملامح العدوانية، والمشغولين عن همومي الأرضية، بهموم الآخرة. مرددين هتافات وشعارات دينيّة وسياسيّة.
وكنت أردت تفادي المرور بهذه الساحة . ولكن كان لا مفر من مروري بها، وقد ازدحمت كل الشوارع المؤدية إليها، وتلك المحيطة بها. وهو ما كان سيؤخر موعدي بساعة على الأقل.
لا أذكر أني مررت من هنا، إلا وصدمتني مقاييس تمثال الأمير عبد القادر. ووضعتني في حالة عصبية. واليوم أيضًا على عجلتي، يلفت انتباهي، وجوده وسط بحر من الحشود البشرية التي لا يكاد يعلو عليها سوى بمترين أو ثلاثة. حتى أن بعضهم تسلقه بسهولة وحمّله أعلامًا خضراء.. وسوداء.
ما يحزنني حقًا، هو أحجام تلك التماثيل الهائلة التي تزين العواصم العربية. لحكام لم يقدموا لشعوبهم غير المجازر والدمار. مقارنة بهذا التمثال المتواضع لرجل وهبنا كبرياء التاريخ. وأسس لنا أول دولة جزائريّة أذهلت فرنسا نفسها.
رجل لم يطالبنا بأن نعيد رفاته من الشام، ولا بأن نصنع له تمثالاً في ساحة هو أكبر منها.
إنه زمن عجيب حقًا، اختلّت فيه المقاييس، وأصبحت فيه الشعوب تصنع تماثيل لحكامها. على قياس جرائمهم.. لا على قياس عظمتهم!
لذا مازال الأمير منذ ربع قرن، غير راضٍ عن وجوده بيننا، مولّيًا ظهره إلى مقر حزب جبهة التحرير.. ووجهه صوب البحر.. وهو ما غذّى كثيرًا من النكت السياسيّة لدى سكان العاصمة.
أجل..حدث أن كنا يومًا شعبًا يتقن السخرية، فكيف فقدنا الرغبة في الضحك؟ وكيف أصبح لنا هذه الوجوه المغلقة.. والطباع العدائية .. والأزياء الغريبة التي لم تكن يومًا أزياءنا؟
كيف أصبحنا غرباء عن أنفسنا ، وعن بعضنا بعضًا، غرباء إلى حد الخوف، وحد الاحتياط من عيون تتفحصنا، أو خطى تسير خلفنا.
أمشي. يقودني الخوف إلى السرعة تارة. وإلى التأني تارة أخرى. محتمية بثياب لا تشبهني، استعرتها هذه المرة من امرأة أخرى. ليست سوى فريدة.
ها أنا أعيش بين ثياب امرأتين. إحداهما تحترف الإغراء .. والأخرى التقوى. أذهب لملاقاة ذلك الرجل مرة في ثوب أسود ضيق، ومرة في عباءة فضفاضة، لا يبدو منها سوى وجهي . تتناوب عليّ امرأتان، كلتاهما أنا.
ولأننا نفكر، ونتصرف كل مرة حسب ما نرتدي وحسب ما نخلع، فانا الآن، أمر بهذا الحشد من الناس بتواطؤٍ غامض. أكاد أشاركهم حماسهم وهتافهم، لولا أن عيني تواصلان البحث عن رقم البناية التي ينتظرني فيها ذلك الرجل.. وعقلي يواصل السؤال. لماذا يوجد هذا الرجل دائمًا بمحاذاة السياسة ويعود بتوقيت التاريخ؟ ولماذا معه، يحتاط فرحي من الحزن؟
أمام مقهى "الميلك بار" الذي اجتازه بخوفٍ بالغ، أتذكر فجأة "جميلة بوحيرد" التي، أثناء الثورة، جاءت يوما إلى هذا المقهى نفسه. متنكرة في ثياب أوروبية. وقد طلبت شيئا من النادل, قبل أن تغادر المقهى تاركة تحت الطاولة, حقيبة يدها الملأى بالمتفجرات، تلك التي اهتزت لدويها فرنسا، مكتشفة- هي التي كانت تطالب برفع الحجاب عن المرأة الجزائرية- أن هذا السلاح أصبح يستعمل ضدها. وأن امرأة في زي عصري، قد تخفي.. فدائية!
بعد أربعين سنة، ها أنا الوريثة الشرعية لجميلة بو حيرد. أمر بهذا المقهى نفسه. متنكرة في ثياب التقوى.بعد أن اكتشفت النساء-هذه المرة أيضًا – أن ثياب التقوى قد تخفي عاشقة. تخبئ تحت عباءتها جسدًا مفخخًا بالشهوة.
بخوفها نفسه، بتحديها وإصرارها نفسه. أمشي هذا الشارع. بعد أن أصبح الحب هو أكبر عملية فدائيّة تقوم بها امرأة جزائريّة.
دومًا، كنت أقول لامرأة كانت أنا: لا تمري عندما تشعل الحياة أضواءها الحمراء. تعلمي الوقوف عند حاجز القدر. عبثًا تزوّرين إشارات المرور. لا تؤخذ الأقدار عنوة.
وكنت أقول.. لقلب كان قلبي: حاول أن لا تشبهني. لا تكن على عجل. أنظر يمينك ويسارك، قبل ان تجتاز رصيف الحياة. لا تركب هذا القطار المجنون أثناء سيره . الحالمون يسافرون وقوفًا دائمًا، لأنهم يأتون دائمًا متأخرين عن الآخرين بخيبة!
وكان يردّ:
"كل من عرفتِ مشت على أحلامهم عجلات الوطن. والذين أحببتِ، تبعثروا في قطار القدر. فاعبري حيث شئت. ستموتين حتمًا.. في حادث حبّ!".
في كل خطوة، كنت أشعر أنني حققت معجزة البقاء على قيد الحياة. وأعجب لأن قلبي مازال مكانه، رغم تسارع دقاته التي تدقّ في اللحظة نفسها، دقة شوقًا، ودقة خوفًا، على إيقاع هتافات تحملني وتغطي على كل صوت داخلي: "لا دراسة.. لا تدريس، حتى يسقط الرئيس" وتردّ أخرى "لا ميثاق.. لا دستور.. قال الله.. قال الرسول".
ها هي ذي البناية أخيرًا.
أكاد لا أجتاز بابها حتى أشعر أنني أغادر عالماً.. وأدخل آخر.
درجها المتسخ لا يعنيني. مصعدها المعطل لا يثنيني. والطوابق الأربعة التي سأصعدها تزيد من حماسي.
إن أجمل لحظات الحبّ.. هي عندما نصعد الدرج!
أمام باب ينتظرني خلفه المجهول، أستعيد أنفاسي وأحاول أن أتفقد هيأتي. ولكن قبل أن أدق الباب، أراه يفتح أمامي. وقامة أعرفها تختفي قليلا خلفه. وكأنها تشير إليّ بالدخول.
فأدخل.. وينغلق الباب خلفي.
أنا التي خبرت عناوين الحب جميعها، أدري أن الحب لا يقيم في الفنادق من فئة خمسة نجوم، ولا في البيوت الباذخة البرودة. ولذا أسعدني أن يكون هذا البيت في بساطة عش ودفئه.
أتجه منهكة دون استئذان نحو أول غرفة تقابلني. ألقي بحقيبة يدي على الأريكة. أوشك أن ألقي بنفسي أيضًا جوارها. ولكنني أبقى واقفة لحظة أتأمله. وكأنني أبحث فيه عن سبب يبرر كل هذا الجنون.
يقترب مني، وتمتد يداه لترفع عن رأسي غطاء نسيت أن أخلعه. يوشك أن يقول شيئاً. ثم تسبق كلماته ابتسامة، يليها اعتراف لا يخلو من الحسرة:
- كم اشتقتك..!
ولا أملك إلا أن أجيبه:
- وأنا.. ماذا غير الشوق جاء بي إليك؟ ليتك تدري كم كان المجيء إليك صعباً!
يجلس على الأريكة المقابلة لي. يعبث بهدوء بذلك الشال الذي ما زال ممسكا به. يتأملني في هيأة لا تشبهني وكأنه يتعرف إلي، بينما أتأمل أنا تلك الغرفة التي يغطيها أثاث بسيط منتقى بذوق عزوبي، لا يتعدى أريكة كبيرة من المخمل، تشغل وظيفة الصالون. وطاولة، ومكتبة تمتد على طول الجدار المقابل. ولا تترك فيها الكتب المصطفة بنظام، سوى مكان لجهاز التلفزيون. ولجهاز موسيقى، تنبعث منه معزوفة خافتة على البيانو لريشار كليدرمان.
أبديت لها تفهمي، واعتذرت لها عن الإزعاج وأنا أودعها بأدب. ولكنها ظلت تلح لأتصل بزوجي من بيتها. وقالت إن لا ضرورة لإزعاجه بمشكلة الهاتف. فسيتكفل زوجها بالاتصال بالجهات المعنية لإصلاحه فورًا.
عند عودتي لم أخبر فريدة بما قالته لي الجارة. احتفظت بتلك الإهانة بنفسي. وماذا عساها تقول وهي تحتفظ في أعماقها أن من حق أخيها أن يتصرف كيفما يشاء، ليس فقط لأنه رجل بل لأنه أيضًا رجل دولة.
العجيب أنني لم أشعر بالغيرة. إحساسي كان أقرب إلى الغثيان منه إلى إحساس آخر. فلم أشأ أن أفكر في النساء اللاتي تناوبن على هذا السرير. ولم أكلف نفسي مشقة وضع ملامح لوجوههن.
شكلهن لا يعنيني. فأنا أتصورهن من النوع الساقط والبذيء المظهر. وربما كن شقراوات مزيفات. عادة هذا النوع يروق لزوجي وربما كان يروق لكل الرجال. وهو أمر أتفهمه تمامًا.
ولكن مالا أفهمه،هو لماذا تزوج زوجي سمراء، إذا كان يحب الشقراوات؟ ولماذا تزوج مرة ثانية.. إذا كانت لا تشبعه سوى الوجبات التي يتناولها خارج البيت؟
أتذكر صديقة لي كان زوجها مغرمًا بالشقراوات. وكان يزعجها أن تطاردها الألسن هامسة دائمًا "لقد رأينا زوجك صحبة شقراء" فقامت المسكينة بصبغ شعرها .لا أملاً في إغرائه أو استعادته، وإنما حتى يبدو للناس ن بعيد أنه برفقتها. وكأن المهم في ذلك ، وإنما حتى يبدو للناس ن بعيد أنه برفقتها. وكأن المهم في هذه الحالات إنقاذ المظاهر!
أكبر عقاب حلّ بي يومها، لم يكن ما سمعته من تلك المرأة، وإنما عدم تمكني من سماع صوت ذلك الرجل.
في اليوم التالي، استيقظت على صوت زوجي الذي أعلن لي عودة الخط الهاتفي. جاء صوته ليخرجني من كوابيس ليلتي . ولكن من دون أن يوقظ الأحلام الجميلة داخلي.
للأحلام صوت داخلي. أسميته"هو". هو الذي لا اسم له. والذي ليس سوى حرفين للحب. تتناوب عليها حروف النهي وحروف النفي.. وحروف التحذير.. وحروف التساؤل.
"هو" ليس أكثر من "لا" و"لن" و"هل" و"لِمَ" .. و"متى؟"..و"كيف؟".
"هو" ليس أكثر من حرفين وستة أرقام. ليست أرقام هاتفه . إنها أرقام اليانصيب التي ألعب بها قدري.
_اشتقتك.. لِمَ لم تطلبيني البارحة؟
_كان الهاتف معطلاً..
_وهل حسمت أمر لقائنا؟
_أجل إذا كان يناسبك سأزورك اليوم بعد الظهر.
يضع شيئًا من الصمت بيننا ثم يقول:
_أنا ليس لي برنامج غيرك. وبإمكانك أن تأتي متى شئتِ، ولكن..
_ولكن ماذا..؟
_الوضع لا يوحي بالأمان اليوم.
أطمئنه:
_لا يمكن أن يكون أسوأ مما عرفته في قسنطينة.
يجيب:
_لا أعتقد أن تكوني عرفت شيئًا كهذا.
يثير فضولي. أسأله:
_مالذي يحدث؟
يجيب:
_لقد تحولت ساحات العاصمة في الليل إلى غرف نوم ضخمة. افترش فيها الإسلاميون الأرض. لا ينهضون منها إلا في الصباح لإطلاق الشعارات والتهديدات.. والأدعية إلى الله..
_ومتى حصل كل هذا؟
_البارحة.. لقد جاءت بهم الباصات بالعشرات حتى هنا. نساءً ورجالاً..
أسأله متعجبة:
_النساء أيضًا ؟
يجيب:
_لقد وصلن في أتوبيسات مسدلة الستائر. لا يبان منها إلا القرآن المرفوع خارج النوافذ.
أسأله وقد بدأت أفقد شيئًا من حماسي:
_وهل ما يحدث قريب منك؟
يجيب:
_طبعًا.. أنا أسكن شارع العربي بن مهيدي.. إنه شارع متفرع عن ساحة الأمير عبد القادر حيث يتم الاعتصام..
أقاطعه:
_أعرف هذا الشارع جيدًا.
كدت للحظة أتخلى عن مشروعي الجنوني. ولكنني كنت على درجة من الإحباط، أصبح معها عدم اللقاء به هو أسوأ ما يمكن أن يحدث لي.
توقعت أن أفاجئه وأنا أقول:
_سأسلك طريق البريد المركزي للوصول إليك. أعطني العنوان فقط.
ولكنه أجاب بفرح أسعدني:
_توقعت منك جوابا كهذا.. إنه يشبهك.
ثم واصل:
_أفهمت لماذا أحبك؟
قلت وأنا أمازحه:
لا.. لم أفهم . ستشرح لي ذلك عندما أجيء!
* * *
إنها الثالثة أخيرًا. أخيرًا إنها الثالثة.
أيها الحب تأخرت كثيرًا. فلماذا تستعجلني الآن إلى هذا الحد. وتركض بي في سيارة ستوصلني إلى منتصف الرغبة، لأواصل وحدي المشي لاهثة في شارع الخوف، متحايلة تارة على عيون سائق يحترف التجسس، وتارة على نظرات مارة متفرغين للفضول.
ولكن من يملك ما يكفي من الحدس، لقراءة خطى امرأة ذاهبة أو عائدة من موعد حب؟
ذلك أنه عكس كل الذين يملكون وقتًا كافيًا لتبذيره، الحب معك لا صبر له؛ يعلمك كل شيء دفعة واحدة، والشيء ونقيضه في تجربة واحدة.يعلمك أن تكون أنت وآخر في آن واحد. ويجعلك ممثلاً من الدرجة الأولى.
أجتاز ساحة الأمير عبد القادر راجلة بخطًى رصينة وداخل ثياب محتشمة. أتعلم المشي داخل هذه العباءة.. وهذا الشال الذي يغطي شعري، وكأنني لم أخلعهما يومًا.
أشعر بأمان، وسط عشرات الرجال ذوي الأزياء العجيبة والملامح العدوانية، والمشغولين عن همومي الأرضية، بهموم الآخرة. مرددين هتافات وشعارات دينيّة وسياسيّة.
وكنت أردت تفادي المرور بهذه الساحة . ولكن كان لا مفر من مروري بها، وقد ازدحمت كل الشوارع المؤدية إليها، وتلك المحيطة بها. وهو ما كان سيؤخر موعدي بساعة على الأقل.
لا أذكر أني مررت من هنا، إلا وصدمتني مقاييس تمثال الأمير عبد القادر. ووضعتني في حالة عصبية. واليوم أيضًا على عجلتي، يلفت انتباهي، وجوده وسط بحر من الحشود البشرية التي لا يكاد يعلو عليها سوى بمترين أو ثلاثة. حتى أن بعضهم تسلقه بسهولة وحمّله أعلامًا خضراء.. وسوداء.
ما يحزنني حقًا، هو أحجام تلك التماثيل الهائلة التي تزين العواصم العربية. لحكام لم يقدموا لشعوبهم غير المجازر والدمار. مقارنة بهذا التمثال المتواضع لرجل وهبنا كبرياء التاريخ. وأسس لنا أول دولة جزائريّة أذهلت فرنسا نفسها.
رجل لم يطالبنا بأن نعيد رفاته من الشام، ولا بأن نصنع له تمثالاً في ساحة هو أكبر منها.
إنه زمن عجيب حقًا، اختلّت فيه المقاييس، وأصبحت فيه الشعوب تصنع تماثيل لحكامها. على قياس جرائمهم.. لا على قياس عظمتهم!
لذا مازال الأمير منذ ربع قرن، غير راضٍ عن وجوده بيننا، مولّيًا ظهره إلى مقر حزب جبهة التحرير.. ووجهه صوب البحر.. وهو ما غذّى كثيرًا من النكت السياسيّة لدى سكان العاصمة.
أجل..حدث أن كنا يومًا شعبًا يتقن السخرية، فكيف فقدنا الرغبة في الضحك؟ وكيف أصبح لنا هذه الوجوه المغلقة.. والطباع العدائية .. والأزياء الغريبة التي لم تكن يومًا أزياءنا؟
كيف أصبحنا غرباء عن أنفسنا ، وعن بعضنا بعضًا، غرباء إلى حد الخوف، وحد الاحتياط من عيون تتفحصنا، أو خطى تسير خلفنا.
أمشي. يقودني الخوف إلى السرعة تارة. وإلى التأني تارة أخرى. محتمية بثياب لا تشبهني، استعرتها هذه المرة من امرأة أخرى. ليست سوى فريدة.
ها أنا أعيش بين ثياب امرأتين. إحداهما تحترف الإغراء .. والأخرى التقوى. أذهب لملاقاة ذلك الرجل مرة في ثوب أسود ضيق، ومرة في عباءة فضفاضة، لا يبدو منها سوى وجهي . تتناوب عليّ امرأتان، كلتاهما أنا.
ولأننا نفكر، ونتصرف كل مرة حسب ما نرتدي وحسب ما نخلع، فانا الآن، أمر بهذا الحشد من الناس بتواطؤٍ غامض. أكاد أشاركهم حماسهم وهتافهم، لولا أن عيني تواصلان البحث عن رقم البناية التي ينتظرني فيها ذلك الرجل.. وعقلي يواصل السؤال. لماذا يوجد هذا الرجل دائمًا بمحاذاة السياسة ويعود بتوقيت التاريخ؟ ولماذا معه، يحتاط فرحي من الحزن؟
أمام مقهى "الميلك بار" الذي اجتازه بخوفٍ بالغ، أتذكر فجأة "جميلة بوحيرد" التي، أثناء الثورة، جاءت يوما إلى هذا المقهى نفسه. متنكرة في ثياب أوروبية. وقد طلبت شيئا من النادل, قبل أن تغادر المقهى تاركة تحت الطاولة, حقيبة يدها الملأى بالمتفجرات، تلك التي اهتزت لدويها فرنسا، مكتشفة- هي التي كانت تطالب برفع الحجاب عن المرأة الجزائرية- أن هذا السلاح أصبح يستعمل ضدها. وأن امرأة في زي عصري، قد تخفي.. فدائية!
بعد أربعين سنة، ها أنا الوريثة الشرعية لجميلة بو حيرد. أمر بهذا المقهى نفسه. متنكرة في ثياب التقوى.بعد أن اكتشفت النساء-هذه المرة أيضًا – أن ثياب التقوى قد تخفي عاشقة. تخبئ تحت عباءتها جسدًا مفخخًا بالشهوة.
بخوفها نفسه، بتحديها وإصرارها نفسه. أمشي هذا الشارع. بعد أن أصبح الحب هو أكبر عملية فدائيّة تقوم بها امرأة جزائريّة.
دومًا، كنت أقول لامرأة كانت أنا: لا تمري عندما تشعل الحياة أضواءها الحمراء. تعلمي الوقوف عند حاجز القدر. عبثًا تزوّرين إشارات المرور. لا تؤخذ الأقدار عنوة.
وكنت أقول.. لقلب كان قلبي: حاول أن لا تشبهني. لا تكن على عجل. أنظر يمينك ويسارك، قبل ان تجتاز رصيف الحياة. لا تركب هذا القطار المجنون أثناء سيره . الحالمون يسافرون وقوفًا دائمًا، لأنهم يأتون دائمًا متأخرين عن الآخرين بخيبة!
وكان يردّ:
"كل من عرفتِ مشت على أحلامهم عجلات الوطن. والذين أحببتِ، تبعثروا في قطار القدر. فاعبري حيث شئت. ستموتين حتمًا.. في حادث حبّ!".
في كل خطوة، كنت أشعر أنني حققت معجزة البقاء على قيد الحياة. وأعجب لأن قلبي مازال مكانه، رغم تسارع دقاته التي تدقّ في اللحظة نفسها، دقة شوقًا، ودقة خوفًا، على إيقاع هتافات تحملني وتغطي على كل صوت داخلي: "لا دراسة.. لا تدريس، حتى يسقط الرئيس" وتردّ أخرى "لا ميثاق.. لا دستور.. قال الله.. قال الرسول".
ها هي ذي البناية أخيرًا.
أكاد لا أجتاز بابها حتى أشعر أنني أغادر عالماً.. وأدخل آخر.
درجها المتسخ لا يعنيني. مصعدها المعطل لا يثنيني. والطوابق الأربعة التي سأصعدها تزيد من حماسي.
إن أجمل لحظات الحبّ.. هي عندما نصعد الدرج!
أمام باب ينتظرني خلفه المجهول، أستعيد أنفاسي وأحاول أن أتفقد هيأتي. ولكن قبل أن أدق الباب، أراه يفتح أمامي. وقامة أعرفها تختفي قليلا خلفه. وكأنها تشير إليّ بالدخول.
فأدخل.. وينغلق الباب خلفي.
أنا التي خبرت عناوين الحب جميعها، أدري أن الحب لا يقيم في الفنادق من فئة خمسة نجوم، ولا في البيوت الباذخة البرودة. ولذا أسعدني أن يكون هذا البيت في بساطة عش ودفئه.
أتجه منهكة دون استئذان نحو أول غرفة تقابلني. ألقي بحقيبة يدي على الأريكة. أوشك أن ألقي بنفسي أيضًا جوارها. ولكنني أبقى واقفة لحظة أتأمله. وكأنني أبحث فيه عن سبب يبرر كل هذا الجنون.
يقترب مني، وتمتد يداه لترفع عن رأسي غطاء نسيت أن أخلعه. يوشك أن يقول شيئاً. ثم تسبق كلماته ابتسامة، يليها اعتراف لا يخلو من الحسرة:
- كم اشتقتك..!
ولا أملك إلا أن أجيبه:
- وأنا.. ماذا غير الشوق جاء بي إليك؟ ليتك تدري كم كان المجيء إليك صعباً!
يجلس على الأريكة المقابلة لي. يعبث بهدوء بذلك الشال الذي ما زال ممسكا به. يتأملني في هيأة لا تشبهني وكأنه يتعرف إلي، بينما أتأمل أنا تلك الغرفة التي يغطيها أثاث بسيط منتقى بذوق عزوبي، لا يتعدى أريكة كبيرة من المخمل، تشغل وظيفة الصالون. وطاولة، ومكتبة تمتد على طول الجدار المقابل. ولا تترك فيها الكتب المصطفة بنظام، سوى مكان لجهاز التلفزيون. ولجهاز موسيقى، تنبعث منه معزوفة خافتة على البيانو لريشار كليدرمان.
رد: فوضى الحواس )"الفصل الثالث"( للكاتبة المتميزة >>أحلام مستغانمي <<
أحبّ تطابق ذوقي مع ذوق هذا الرجل. وأحب أكثر، تطابق مزاجنا الغريب في التصرف عكس المنطق، كالاستمتاع إلى معزوفة موسيقية في يوم على هذا القدر من الجنون الصارخ. الأمر الوحيد الذي فاجأني. هو عدم وجود أية لوحات في هذا البيت. وهو ما كان سيساعدني على اكتشاف هذا الرجل.
أسأله:
_ماذا تستهلك عدا السجائر؟
_أستهلك الصبر.. والصمت.
_وكيف يمكنك أن ترسم بهذه الأحاسيس الثلجيّة؟
_ومن قال لك إنني أرسم.؟ أن ترسم يعني أن تتذكّر.. أنا رجل يحاول أن ينسى.
أقول:
_أريد أن أرى بعض أعمالك..هل يمكن أذلك؟
يجيب:
لا..ليس معي شيء منه.
_وماذا فعلت بها..؟
_لقد تركتها في مدينة أخرى.
يساورني فجأة إحساس بالشكّ في ما يقوله، بل إحساس بأنه يخفي شيئًا ما، أو يكذب، وأنه لم يكن يوماً رساماً.
أسأله:
_أين تعلّمت الرّسم.
يجيب بما يؤكد ظنّي:
_إن أسوأ شيء بالنّسبة إلى رسّام، هو دخول مدرسة للرّسم!
كنت أريد أن أجادله في هذا الرأي. أو ربما فقط أستدرجه للحديث عن نفسه. ولكنه صمت. ولم يغادر صمته إلاّ ليحدّثني بعد ذلك عن الأوضاع السياسية. ويسألني إن كنت وجدت صعوبة في الوصول إليه.
كان يتحدث. وكنت مشغولة عنه، بالإنصات إلى يديه. كانتا الشيء الوحيد الذي يتكلم كثيراً عليه.
تعلّمت أمام أجوبته الهاربة، أن أستجوبهما. وجدت فيهما المدخل الوحيد الذي يؤدي إليه.
إنهما بدءًا تفضحان كسله؛ فهو لا يستعمل منهما سوى واحدة: اليمنى دائمًا.
أتأمل طويلاً أصابعه، أشعر أنها في امتلائها وطولها تقول الكثير عن رجولته. وأن طريقته في تقليم أظافره، باستدارة مدروسة، كأنه لا يريد أن يؤلم أحداً ولو عشقًا. تطمئنني، وتثير شهيّتي للمسات حميميّة، ولكنها لا تساعدني إطلاقًا على معرفة مهنته الحقيقيّة.
هذا الرجل ليس رسامًا. يده أكثر رصانة من يدين تعيشان بعصبيّة الخلق.
نحن نعرف عازف البيانو من رشاقة أصابعه. ونعرف النجار الذي غالباً ما يكون فقد إصبعًا من أصابعه. ونعرف الدهّان ونعرف الجزّار. ونعرف المعلم من الطباشير العالقة به، والفلاح الذي انغرس التراب في أظافره، وعامل المطبعة الذي أصبح الحبر جزءًا من بصمات أصابعه.
مذهل هو عالم الأيدي، في عريه الفاضح لنا. ولا عجب أن يكون الرسامون والنحاتون، قد قضوا كثيرًا من وقتهم في التجسس على أيدٍ، كانوا يدخلون منها إلى لوحاتهم ومنحوتاتهم، حتى إن النحات "رودان" الذي أخذت الأيدي كثيرًا من وقته وتركت كثيرُا من طينها على يديه، كان يلخص هوسه بها قائلاً: "ثمة أيدٍ تصلي وأيدٍ تلعن، وأيدٍ تنشر العطر وأيدٍ تبرد الغليل.. وأيدٍ للحبّ". فكيف له إذن أن ينحت واحدة دون أخرى؟
ذلك أن اليدين، تقولان الكثير عن أشيائنا الحميمة. تحملان ذاكرتنا، أسماء من احتضنا يوماً. من عبرنا أجسادهم لمسًا أو بشيء من الخدوش.
تقولان عمر لذتنا، عمر شقائنا. تفضحان العمر الحقيقي لجسدنا. تفضحان كلّ ما مارسناه من مهن. كلّ ما مارسنا أو لم نمارس من حبّ.
ولذا ثمة أيدٍ، كأصحابها، ليست أهلاً للحياة. ما دامت لم تفعل شيئاً بحياتها.
أتأمل يديه، وأدري تماما أنني أتأمل يدين عرفتا الحياة. حبكتاها، عجنتاها، حدّ الولع. منحتا النساء كثيراً من المتعة. ومنحتهما الحياة كثيراً من الخيبة، التي تبدو واضحة من كسلهما المتعمد.
يدان داعبتا.. اكتشفتا..عبثتا.. أشعلتا أكثر من أنثى. وهما تشعلانني الآن خلف دخان سيجارة الصمت.
تضرمان النار في أسئلتي. تشعلان حرائق غيرتي. هاتان اليدان اللتان لم يعلق بهما شيء. هل حدث أن تعلقتا بأحد؟ وما اسم آخر امرأة أحبتا؟ آخر امرأة عرّتا؟ ما عمر لذتهما؟
أنا التي تأملته كثيرًا, أدري أنه رجل متعدد الأعمار. ولذا كان بإمكاني أن أسأله "ما عمر عينيك؟ ما عمر شفتيك؟ أو.. ما عمر صمتك يا سيدي؟".
ولكنني سألته:
-ما عمر يديك؟
ولكنه أجاب دون انبهار واضح بسؤالي:
-عمرهما.. عمر خيبتي.
قلت:
-ولكنني برغم هذا أحبهما.
أجاب وهو ينهض فجأة ليقلب الشريط. وكأنه يقلب موضوع حديثنا.
-لقد أحببتِ دائمًا عقَدي!
لم أفهم ما يعنيه.ولم أحاول التعمق في الفهم. اكتفيت بالوقوف متجهة بدوري نحو المكتبة التي كان بي فضول لاكتشافها، مستفيدة من جهل هذا الرجل لتلك المقولة الجميلة لرولان بارت "على المرء أن يخفي عن الآخرين صيدلية بيته.. ومكتبته!".
استدرجتني كثرة كتبها إلى إلقاء نظرة على عناوينها. وكأنني أطالع أخيراً هذا الرجل الذي استفاد من انشغالي بها لينسحب قائلا:
-أتوقع أن لا تفتقديني كثيرًا.. لو أنا ذهبت لأعدّ لك قهوة!
ضحكت.. أجبته:
-طبعا لا.. لا يمكن للكتب إلا أن تقربنا!
منذ النظرة الأولى. فاجأتني شساعة المواضيع التي تضمها هذه المكتبة، والتي تفضح ثقافة عالية باللغتين، واهتمامات تاريخيّة وسياسية متشعبة, لم أتوقعها في هذا الرجل.
بينما تعجبت لعدم وجود أي كتاب عن الفنون التشكيلية أو عن الرسم، في بيت رسام، تضم مكتبته كتباً متعددة الاهتمامات, تتناول حياة بعض رجال التاريخ والصراع العربي الإسرائيلي، وحتّى السطوة العالمية للشركات المتعددة الجنسية، ولا يوجد للإبداع مكان فيها، سوى في رف سفليّ، تمتد على طوله كتب صغيرة للجيب، ضمن سلسلة الشعر الفرنسي المعاصر. بينها كتاب "أزهار الشرّ" لبودلير و"المركب الثمل" لرامبو.. وآخر لجان كوكتو وشعراء آخرين.
كنت أتصفح بعضها بفضول، عندما وقعت على كتاب لهنري ميشو "أعمدة الزاوية". وهو كتاب لم يحدث أن قرأته أو سمعت به. رغم أنني أحببت في زمن بعيد هذا الشاعر.
لا أدري أية مصادفة قادتني إلى ذلك الكتاب بالذات. فقد كان، بين ما تصفحته من كتب، هو الوحيد الذي وضع علي هذا الرجل بعض ملاحظاته، وإضافات أو إشارات إلى مقاطع دون غيرها.
شعرت وأنا أتصفحه أنني وقعت على المفتاح الذي يفتح سر هذا الرجل.
وصدّقت تماما مقولة رولان بارت. فإذا كانت صيدلية بيتنا تفضح للآخرين أمراضنا، فإن مكتبتنا قد تقول لهم أكثر مما نريد أن يعرفوه عنّا. خاصة إذا وقعوا على كتاب شاركنا في مواصلة كتابته على الهامش.
كنت ما أزال أتصفحه عندما عاد محملاً بالقهوة.
سألته:
-أيمكنني أن أستعير منك هذا الكتاب؟
قال دون أن يكلف نفسه مشقّة سؤالي عن عنوانه.
-طبعاً!
واصل وهو يضع القهوة على الطاولة:
-طلباتك متواضعة. كنت أريد لك طلبات أجمل!
أجبته وأنا أعيد الكتب الأخرى إلى الرف:
-أكتفي بالمتواضعة.. الأجمل لا تطلب!
قال وكأنه يتدارك خطأً:
-الأجمل يأتي دائماً متأخراً.. يا سيدتي!
كان صوته ملامساً لمسمعي. ما كدت ألتفت خلفي حتّى وجدتني على حافة جسده. بيننا مسافة أنفاس وقبلة. ولكنه لم يقبلني. امتدت يده اليمنى نحو شعري، تلامسه مروراً بعنقي ببطء وعبث مثير. ثمّ انزلقت نحو أذنيّ، تخلع عنهما الواحدة بعد الأخرى قرطهما.
وضع القرطين على رفّ المكتبة، بتلقائية من تعود أن يخلع عن امرأة أشياءها الصغيرة. وكأنه كان يهيئني لطقوس عشقية. ثم راحت شفتاه تبدآن حيث توقفت يداه.
ها هما تعبرانني ببطء متعمد. على مسافة مدروسة للإثارة. تمرّان بمحاذاة شفتيّ, دون أن تقبلاهما تماما. تنزلقان نحو عنقي، دون أن تقبلاه حقاً، ثم تعاودان صعودهما بالبطء المتعمد نفسه.
وكأنه كان يقبلني بأنفاسه لا أكثر.
هو يعرف كيف يلامس أنثى. تماما كما يعرف ملامسة الكلمات، بالاشتعال المستتر نفسه. يحتضنني من الخلف، كما يحتضن جملة هاربة، بشيء من الكسل الكاذب. فأبقى متكئة على الجدار حيث استدرجني منذ البدء، وقد خدرتني زوبعة اللذة، دون أن أسأل نفسي. ماذا تراه فاعلاً بي؟ تراه يرسم بشفتيه جسدي؟ أم يرسم قدري؟ تراه يملي عليّ نصي القادم؟ أم تراه يلغي لغتي؟
هذا الرجل الذي يكتبني ويمحوني بقبلة واحدة, أو حتى من دون أن يقبلني، كيف أقاومه وهو يعبر بشفتيه الممرات السرية للرغبة، ثم يجتاحني بشراسة مفاجئة، يلتهم شفتيّ مبتلعاً كلّ ما كنت سأقوله له؟
أكتشف أنه بدأ الآن فقط بتقبيلي. ممسكاً بي من شعري المنفلت في يده، خالطًا ريقي الممتزج بريقه.. مثيراً لعرقي الذي يطغى على عطره، قاطعاً لأنفاسي التي ضاعت في فمه، حتّى لكأنني أتنفس منه ومعه.
كنت أتمنى لو ضمّني إليه كي يمنعني من السقوط. ولكنه كان يتلذذ بانبهار أنوثتي به، حتّى أنه لم يستعمل لضمّي سوى ذراع واحدة.
ثمّ كما في قبلة عنقودية.. راح يضع على عنقي قبلات تنازلية متدرجة، متلاحقة، وكأنه يضع نقاط انقطاع عند نهاية نصّ قد يعود إليه ومضى.
أسأله:
_ماذا تستهلك عدا السجائر؟
_أستهلك الصبر.. والصمت.
_وكيف يمكنك أن ترسم بهذه الأحاسيس الثلجيّة؟
_ومن قال لك إنني أرسم.؟ أن ترسم يعني أن تتذكّر.. أنا رجل يحاول أن ينسى.
أقول:
_أريد أن أرى بعض أعمالك..هل يمكن أذلك؟
يجيب:
لا..ليس معي شيء منه.
_وماذا فعلت بها..؟
_لقد تركتها في مدينة أخرى.
يساورني فجأة إحساس بالشكّ في ما يقوله، بل إحساس بأنه يخفي شيئًا ما، أو يكذب، وأنه لم يكن يوماً رساماً.
أسأله:
_أين تعلّمت الرّسم.
يجيب بما يؤكد ظنّي:
_إن أسوأ شيء بالنّسبة إلى رسّام، هو دخول مدرسة للرّسم!
كنت أريد أن أجادله في هذا الرأي. أو ربما فقط أستدرجه للحديث عن نفسه. ولكنه صمت. ولم يغادر صمته إلاّ ليحدّثني بعد ذلك عن الأوضاع السياسية. ويسألني إن كنت وجدت صعوبة في الوصول إليه.
كان يتحدث. وكنت مشغولة عنه، بالإنصات إلى يديه. كانتا الشيء الوحيد الذي يتكلم كثيراً عليه.
تعلّمت أمام أجوبته الهاربة، أن أستجوبهما. وجدت فيهما المدخل الوحيد الذي يؤدي إليه.
إنهما بدءًا تفضحان كسله؛ فهو لا يستعمل منهما سوى واحدة: اليمنى دائمًا.
أتأمل طويلاً أصابعه، أشعر أنها في امتلائها وطولها تقول الكثير عن رجولته. وأن طريقته في تقليم أظافره، باستدارة مدروسة، كأنه لا يريد أن يؤلم أحداً ولو عشقًا. تطمئنني، وتثير شهيّتي للمسات حميميّة، ولكنها لا تساعدني إطلاقًا على معرفة مهنته الحقيقيّة.
هذا الرجل ليس رسامًا. يده أكثر رصانة من يدين تعيشان بعصبيّة الخلق.
نحن نعرف عازف البيانو من رشاقة أصابعه. ونعرف النجار الذي غالباً ما يكون فقد إصبعًا من أصابعه. ونعرف الدهّان ونعرف الجزّار. ونعرف المعلم من الطباشير العالقة به، والفلاح الذي انغرس التراب في أظافره، وعامل المطبعة الذي أصبح الحبر جزءًا من بصمات أصابعه.
مذهل هو عالم الأيدي، في عريه الفاضح لنا. ولا عجب أن يكون الرسامون والنحاتون، قد قضوا كثيرًا من وقتهم في التجسس على أيدٍ، كانوا يدخلون منها إلى لوحاتهم ومنحوتاتهم، حتى إن النحات "رودان" الذي أخذت الأيدي كثيرًا من وقته وتركت كثيرُا من طينها على يديه، كان يلخص هوسه بها قائلاً: "ثمة أيدٍ تصلي وأيدٍ تلعن، وأيدٍ تنشر العطر وأيدٍ تبرد الغليل.. وأيدٍ للحبّ". فكيف له إذن أن ينحت واحدة دون أخرى؟
ذلك أن اليدين، تقولان الكثير عن أشيائنا الحميمة. تحملان ذاكرتنا، أسماء من احتضنا يوماً. من عبرنا أجسادهم لمسًا أو بشيء من الخدوش.
تقولان عمر لذتنا، عمر شقائنا. تفضحان العمر الحقيقي لجسدنا. تفضحان كلّ ما مارسناه من مهن. كلّ ما مارسنا أو لم نمارس من حبّ.
ولذا ثمة أيدٍ، كأصحابها، ليست أهلاً للحياة. ما دامت لم تفعل شيئاً بحياتها.
أتأمل يديه، وأدري تماما أنني أتأمل يدين عرفتا الحياة. حبكتاها، عجنتاها، حدّ الولع. منحتا النساء كثيراً من المتعة. ومنحتهما الحياة كثيراً من الخيبة، التي تبدو واضحة من كسلهما المتعمد.
يدان داعبتا.. اكتشفتا..عبثتا.. أشعلتا أكثر من أنثى. وهما تشعلانني الآن خلف دخان سيجارة الصمت.
تضرمان النار في أسئلتي. تشعلان حرائق غيرتي. هاتان اليدان اللتان لم يعلق بهما شيء. هل حدث أن تعلقتا بأحد؟ وما اسم آخر امرأة أحبتا؟ آخر امرأة عرّتا؟ ما عمر لذتهما؟
أنا التي تأملته كثيرًا, أدري أنه رجل متعدد الأعمار. ولذا كان بإمكاني أن أسأله "ما عمر عينيك؟ ما عمر شفتيك؟ أو.. ما عمر صمتك يا سيدي؟".
ولكنني سألته:
-ما عمر يديك؟
ولكنه أجاب دون انبهار واضح بسؤالي:
-عمرهما.. عمر خيبتي.
قلت:
-ولكنني برغم هذا أحبهما.
أجاب وهو ينهض فجأة ليقلب الشريط. وكأنه يقلب موضوع حديثنا.
-لقد أحببتِ دائمًا عقَدي!
لم أفهم ما يعنيه.ولم أحاول التعمق في الفهم. اكتفيت بالوقوف متجهة بدوري نحو المكتبة التي كان بي فضول لاكتشافها، مستفيدة من جهل هذا الرجل لتلك المقولة الجميلة لرولان بارت "على المرء أن يخفي عن الآخرين صيدلية بيته.. ومكتبته!".
استدرجتني كثرة كتبها إلى إلقاء نظرة على عناوينها. وكأنني أطالع أخيراً هذا الرجل الذي استفاد من انشغالي بها لينسحب قائلا:
-أتوقع أن لا تفتقديني كثيرًا.. لو أنا ذهبت لأعدّ لك قهوة!
ضحكت.. أجبته:
-طبعا لا.. لا يمكن للكتب إلا أن تقربنا!
منذ النظرة الأولى. فاجأتني شساعة المواضيع التي تضمها هذه المكتبة، والتي تفضح ثقافة عالية باللغتين، واهتمامات تاريخيّة وسياسية متشعبة, لم أتوقعها في هذا الرجل.
بينما تعجبت لعدم وجود أي كتاب عن الفنون التشكيلية أو عن الرسم، في بيت رسام، تضم مكتبته كتباً متعددة الاهتمامات, تتناول حياة بعض رجال التاريخ والصراع العربي الإسرائيلي، وحتّى السطوة العالمية للشركات المتعددة الجنسية، ولا يوجد للإبداع مكان فيها، سوى في رف سفليّ، تمتد على طوله كتب صغيرة للجيب، ضمن سلسلة الشعر الفرنسي المعاصر. بينها كتاب "أزهار الشرّ" لبودلير و"المركب الثمل" لرامبو.. وآخر لجان كوكتو وشعراء آخرين.
كنت أتصفح بعضها بفضول، عندما وقعت على كتاب لهنري ميشو "أعمدة الزاوية". وهو كتاب لم يحدث أن قرأته أو سمعت به. رغم أنني أحببت في زمن بعيد هذا الشاعر.
لا أدري أية مصادفة قادتني إلى ذلك الكتاب بالذات. فقد كان، بين ما تصفحته من كتب، هو الوحيد الذي وضع علي هذا الرجل بعض ملاحظاته، وإضافات أو إشارات إلى مقاطع دون غيرها.
شعرت وأنا أتصفحه أنني وقعت على المفتاح الذي يفتح سر هذا الرجل.
وصدّقت تماما مقولة رولان بارت. فإذا كانت صيدلية بيتنا تفضح للآخرين أمراضنا، فإن مكتبتنا قد تقول لهم أكثر مما نريد أن يعرفوه عنّا. خاصة إذا وقعوا على كتاب شاركنا في مواصلة كتابته على الهامش.
كنت ما أزال أتصفحه عندما عاد محملاً بالقهوة.
سألته:
-أيمكنني أن أستعير منك هذا الكتاب؟
قال دون أن يكلف نفسه مشقّة سؤالي عن عنوانه.
-طبعاً!
واصل وهو يضع القهوة على الطاولة:
-طلباتك متواضعة. كنت أريد لك طلبات أجمل!
أجبته وأنا أعيد الكتب الأخرى إلى الرف:
-أكتفي بالمتواضعة.. الأجمل لا تطلب!
قال وكأنه يتدارك خطأً:
-الأجمل يأتي دائماً متأخراً.. يا سيدتي!
كان صوته ملامساً لمسمعي. ما كدت ألتفت خلفي حتّى وجدتني على حافة جسده. بيننا مسافة أنفاس وقبلة. ولكنه لم يقبلني. امتدت يده اليمنى نحو شعري، تلامسه مروراً بعنقي ببطء وعبث مثير. ثمّ انزلقت نحو أذنيّ، تخلع عنهما الواحدة بعد الأخرى قرطهما.
وضع القرطين على رفّ المكتبة، بتلقائية من تعود أن يخلع عن امرأة أشياءها الصغيرة. وكأنه كان يهيئني لطقوس عشقية. ثم راحت شفتاه تبدآن حيث توقفت يداه.
ها هما تعبرانني ببطء متعمد. على مسافة مدروسة للإثارة. تمرّان بمحاذاة شفتيّ, دون أن تقبلاهما تماما. تنزلقان نحو عنقي، دون أن تقبلاه حقاً، ثم تعاودان صعودهما بالبطء المتعمد نفسه.
وكأنه كان يقبلني بأنفاسه لا أكثر.
هو يعرف كيف يلامس أنثى. تماما كما يعرف ملامسة الكلمات، بالاشتعال المستتر نفسه. يحتضنني من الخلف، كما يحتضن جملة هاربة، بشيء من الكسل الكاذب. فأبقى متكئة على الجدار حيث استدرجني منذ البدء، وقد خدرتني زوبعة اللذة، دون أن أسأل نفسي. ماذا تراه فاعلاً بي؟ تراه يرسم بشفتيه جسدي؟ أم يرسم قدري؟ تراه يملي عليّ نصي القادم؟ أم تراه يلغي لغتي؟
هذا الرجل الذي يكتبني ويمحوني بقبلة واحدة, أو حتى من دون أن يقبلني، كيف أقاومه وهو يعبر بشفتيه الممرات السرية للرغبة، ثم يجتاحني بشراسة مفاجئة، يلتهم شفتيّ مبتلعاً كلّ ما كنت سأقوله له؟
أكتشف أنه بدأ الآن فقط بتقبيلي. ممسكاً بي من شعري المنفلت في يده، خالطًا ريقي الممتزج بريقه.. مثيراً لعرقي الذي يطغى على عطره، قاطعاً لأنفاسي التي ضاعت في فمه، حتّى لكأنني أتنفس منه ومعه.
كنت أتمنى لو ضمّني إليه كي يمنعني من السقوط. ولكنه كان يتلذذ بانبهار أنوثتي به، حتّى أنه لم يستعمل لضمّي سوى ذراع واحدة.
ثمّ كما في قبلة عنقودية.. راح يضع على عنقي قبلات تنازلية متدرجة، متلاحقة، وكأنه يضع نقاط انقطاع عند نهاية نصّ قد يعود إليه ومضى.
رد: فوضى الحواس )"الفصل الثالث"( للكاتبة المتميزة >>أحلام مستغانمي <<
رحت أستعيد أنفاسي. أتنبه للثوب الذي أتصبب تحته عرقًا، وأنا أراه يخلع جاكيته، يشعل سيجارة، ويجلس على تلك الأريكة لاحتساء قهوته.
عاودتني أسئلتي.. وأنا أنظر إليه
كما تقرأ غجرية الكف، رحت أقرأ هيأته. بحدسي وحواسي فقط.
لا يعنيني اللحظة أن أكتشف ماضيه، بقدر ما يعنيني أن أطالع قدري مكتوباً عليه، قدراً متعب الشفاه، فوضويّ الشعر، كسول الكلمات، مربك اللمسات، مباغت القبلات، متناقض الرغبات، كرجل في الأربعين.
يسألني:
-فيم تفكرين؟
أجيب:
-أحب الرجال في الأربعين
يبتسم.. يردّ:
-ولكنني لست الرجل الذي تتوهمين!
يلقي برماد سيجارته في المنفضة. ويمد نحوي يده:
-تعالي.. اجلسي قريباً مني
أتردد بعض الشيء قبل أن أعترف:
-إنني أتصبب عرقاً. أنا أرتدي هذه العباءة منذ ساعات.
أتوقع أن يقول اخلعيها مثلاً. لكنه يقول وهو يسحبني إلى جواره:
-أحب رائحتك.. لقد أحببت دائماً لغة جسدك!
ثم يواصل وكأنه يطمئنني:
-إن جسداً لا رائحة له.. هو جسدٌ أخرس!
أقول وأنا أجلس على مقربة منه:
-أخاف أن يأتي يوم يصبح فيه جسدي أكثر بلاغة مني!
يردّ:
-في جميع الحالات هو أكثر صدقًا منك.. فوحدها حواسنا لا تكذب
يواصل:
-لكن العجيب.. أنّ لي إحساساً ثابتاً بأنني قابلتك في بيت آخر، وقبّلتك في زمن آخر، وأنّ هذه الرائحة أعرفها من ضمة أخرى، وهذا المذاق خبرته في قبلة أخرى.. كيف تفسرين أنّ بإمكاننا أن ننسى الجسد الذي امتلكناه ولكننا لا ننسى الجسد الذي اشتهيناه.. ولم نمتلكه؟
طبعاً لم أكن أملك جواباً لأسئلة كهذه. خاصةً أنني لم أكن أبادله الإحساس بأن هذا قد حدث في زمن سابق.
أكتفي بالقول:
-جميلة هي هذه الحالة العالية من الرغبة. ثمة بطولة ما، في البقاء على قيد الوفاء.. لِوَهْم!
ولكنّه وضع رجليه على الطاولة المقابلة له وقال بشيء من السخرية وهو ينفث دخانه بيننا:
-أية بطولة؟ مازلت تأخذين الحياة مأخذ الأدب، لأن الناس يحبون القصص التي تنتهي بخيبة، والتي تكثر فيها المبادئ، ويصمد فيها "البطل" حتى الصفحة الأخيرة، لأنهم في الحياة عاجزون عن الصمود إلى هذا الحدّ..
وأضاف:
-انتهى زمن القضايا الجميلة. لقد خذلتنا البطولات في الحياة. فلتكن لنا في الروايات بطولات أجمل.
كلّ بطولات الفضيلة.. وكلّ انتصارات الحكمة. لا تساوي شيئاً أمام عظمة السقوط في لحظة ضعف أمام من نحبّ. السقوط عشقاً، هو أكثر انتصاراتنا ثباتاً!
يمسك بيدي كأنه يستوقفني يقول:
-هذه المرّة.. أريد لنا بطولات بسيطة وجميلة.. في متناول الجميع. كأن تكون لنا أطول قبلة في تاريخ الأدب الجزائري..
ثم يسألني أمام دهشتي:
-أتدرين بماذا فكرت وأنا أقبلك منذ قليل؟
قلت بفضول:
-بماذا؟
أجاب:
-فكرت أنّ الحياة بدأت معنا في تقليد الأدب. كأن الحبّ أومأ لنا، لنواصل في الحياة، قبلة بدأناها في كتاب سابق.
كما في تلك الرواية. ها نحن في موعدنا الأول نفسه. نواصل قبلة أمام المكتبة إياها. وأنت تستعيرين أحدها.
أحب مصادفة هذه القبلة العابرة للكتب، العابرة لقصّتين. تصوّري روعة قبلة يبدأها رجلٌ وهميّ في كتاب.. ويواصلها في الحياة رجل آخر، تطابق مع الأول حتّى لكأنّه يعرف مذاق شفتي هذه المرأة.
في زمن البطولات الخارقة، والصواريخ العابرة للقارات والأقمار العابرة للكواكب... قبلةٌ عابرةٌ للزمن، عابرة للروايات، تظلّ أهم إنجاز قد يفتخر به المرء.
أقول:
-جميل كلّ هذا.. ولكن لا أفهم لماذا تصرّ على تحطيم هذا الرقم القياسيّ بالذات. عادةً يزهو الرجال بتحطيم أرقام قياسية أخرى!
يضحك وكأنّ سؤالي فاجأه. يقول بعد شيء من الصمت وكأنه جمع كلماته استعداداً لمرافعة:
-لأن القبلة هي الفعل العشقيّ الوحيد الذي تشترك فيه جميع حواسنا. نحن في حاجة إلى حواسنا الخمس لتقبيل شخص. ولكن لسنا في حاجة إليها جميعها لنمارس الجنس. القبلة تفضحنا. لأنها حالة عشقية محض، لا علاقة لها بالرغبات الجنسية التي نشترك فيها مع كلّ الحيوانات.
ولذا، نحن قد نمارس الحبّ مع شخص لا نشعر برغبة في تقبيله. وقد نكتفي بقبلة من امرأة تمنحنا شفتاها من الحمّى، ما تعجز أجساد كلّ النساء على منحنا إياه!
تعلو وجنتيّ حمرة مفاجئة. أرتبك لهذه الكلمات التي يتكهرب لها جسدي. ولكنني لا أقول شيئاً، وكأنني أصبحت فجأة أخرى.
يرفع عن وجهي خصلة أسدلها الارتباك. يقول:
-مارست الحبّ كثيراً.ولكنني الآن أنتبه أنّني لم أقبّل امرأةً منذ زمن طويل، وأنّ عمر لذتي توقف على شفتيك عند الصفحة 172.
أوشكت أن أسأله، عن أي كتاب يتحدّث؟ وكيف يذكر رقم الصفحة بالتحديد؟ ولكنني لم أعد أجد لي صوتاً أضيف به شيئاً إلى ما قاله.
فأقف وكأنني أبحث عن جواب قد أعثر عليه واقفة.
قد يكون أساء فهمي. فقد نظر إلى ساعته وسألني:
-متى يحضر السائق؟
أجبته:
-إنه ينتظرني عند الخامسة.. في الشارع الخلفيّ.
ردّ:
-أمامك ربع ساعة. أنصحك بالذهاب.
لا أجادله في شيء. فأنا أعرف عادته في قطع موعدنا في لحظته الأجمل. كما ينقطع تيار كهربائي أثناء احتفال.
أضاف وكأنه انتبه لشؤون أنساه إياها الحبّ:
-الوضع سيء، وقد تحدث مواجهات في الساعات القليلة القادمة بين المتظاهرين والجيش.
سألته كمن يبحث عن عذر للبقاء.
-لماذا اليوم؟ لماذا الآن؟
قال:
-لأن زعيم الإنقاذ خطب اليوم واصفاً الشاذلي بأنه مسمار مزروع في كعب الجزائر لابدّ من اقتلاعه، وأنّ مسيرة من الملتحين تتوجه نحو القصر الرئاسيّ مطالبة بتقديم تاريخ الانتخابات الرئاسية.
سألني وهو يرى اندهاشي لهذه الأخبار:
-ألا تستمعين إلى الإذاعة؟
قلت كمن يعتذر:
-لا يوجد مذياع حيث أنا، ولأنك نصحتني بأن لا أطالع الجرائد.
فأنا معزولة عن العالم منذ أسبوعين، في ذلك المصيف.
رحت على مرأى منه أجدد هيأتي أمام مرآة. أضع من جديد ذلك الشال على رأسي.
أشياء حوله أحسدها. أتركها خلفي وأتجه نحو الباب.
استوقفني حاملاً ذلك الكتاب. قال مازحاً وهو يمدّني به:
-يبدو لي الآن أنني أتطابق مع خالد في تلك الرواية. ولكن لا خطر من إعارتك هذا الكتاب.. مادام ليس ديواناً لزياد!
عجبت لذاكرته، ولغمزته الساخرة، وأدهشني أن يعرف إحدى رواياتي إلى هذا الحدّ.
قلت وأنا أطمئنه:
-لقد مات هنري ميشو منذ عدّة سنوات. ولا خطر عليك منه!
ردّ مازحاً:
-لا أدري.. ولكنّني تعلمت أن لا أطمئن إلى قراءاتك!
ضحكت.
تذكّرت أن في تلك الرواية تستعير البطلة من خالد ديوان شعر لصديقه الفلسطيني زياد، الذي لا ينفك يحدثها عنه وعن شعره بإعجاب. مطمئناً إلى وجوده في الجبهة. ثم يصادف أن يحضر زياد من لبنان لزيارة باريس لبضعة أيام، فتقع البطلة في حب الشاعر وتتخلّى عن الراوي، الذي خسرها منذ بدأت في قراءة ذلك الكتاب.
أمام الباب الذي ما زال مغلقاً على سرّنا، ضمّني إليه دون أن يقول شيئاً. وكأنّ ذلك الشال الذي يغطّ رأسي أعادنا إلى خانة الغرباء.
افترقنا دون قبلة, دون سلام. كلمات قليلة فقط قالها وأنا أغادر البيت:
-أنتظر هاتفك.. اطلبيني حال وصولك لأطمئن إليك..
أجبت بصوت غائب:
-سأفعل..
توقفت لأنظر إلى الباب وهو ينغلق خلفي، على لحظة مسروقة من شرعيّة القدر. ونزلت الدرج بخطى سارق يرى في كلّ من يصادفه، عيوناً تشتبه في أمره. وهو نفسه يبدأ بالاشتباه في سعادته، وفي لذة وقد مضت، لم تعد تستحقّ كلّ تلك المجازفة. وفي لحظة حبّ وقد انتظرها طويلاً، وخطط لها عدّة أيام، وإذا بها في لحظة صغيرة، لا تتجاوز ما يستغرقه إغلاق باب من وقت، قد أصبحت خلفه.
أجل.. لا أتعس من عاشق يهبط الدرج!
أعود إلى البيت سالكة الطريق نفسه، ولكن بخوف أكثر، وحماس أقلّ. تسكنني فسحة غامضة للفرح.. وأخرى للندم.
أن تخلو بنفسك ساعتين في سيّارة يقودها سائق عسكريّ يعود بك من موعد حبّ، سالكاً شوارع الغضب وأزقّة الموت، ليس سوى سقوط مفجع نحو الواقع، ووقت كافٍ للندم.
يساعدك في ذلك زيّ التقوى الذي تلبسه. وإذا به يلبسك إذا بك تفكر ضدّ نفسك!
ولذا ما كدت أصل إلى البيت، حتّى أسرعت بخلع تلك العباءة، واعدتها إلى صاحبتها. عساني أتصالح مع جسدي.
منذ قرن، لكي تستطيع الكتابة، تبنّت جورج صاند اسمًا رجالياً، وثياباً رجالية. عاشت داخلها كامرأة. ولأنّ هذا لم يعد ممكناً، فأنا أستعير كلّ مرة ثياب امرأة أخرى، كي أواصل الكتابة داخلها.
الأدب يعلّمنا أن نستعير من الآخرين حيواتهم قناعاتهم، وهيأتهم الخارجية. ولكن ليس السطو على أشيائهم الحميمية هو الأصعب.
الأصعب عندما نغلق بعد ذلك دفاترنا، ونخلع ما ليس لنا، ونعود لنقيم في أجساد لم تعد تعرفنا، لكثرة ما ألبسناها ثياباً لا تشبهها!
أرتدي ثوب بيتي الصيفيّ. وأجلس لأفكر في ما حلّ بي.
اللّذة كالألم. تجبرك على إعادة النظر في حياتك، على مراجعة قناعاتك السابقة، بل وقد تذهب بك إلى حدّ سؤال جنونيّ: "ما جدوى حياتك بعدها؟".
ثمّة قُبل إن لم تمت أثناءها، فأنت لست أهلاً لأن تعيش بعدها. وفي الحالتين تقع على اكتشاف مدهش: أنت لم تكن قد جئت إلى الحياة قبلها.
..كذلك الذي كان يتطاول على الموت، ويردّ ضاحكاً على خوفي عليه قائلاً "إنني في حاجة إلى أن أموت أحياناً.. لأعي بعد ذلك أنني ما زلت على قيد الحياة".
كنت عندما تأتيني الحياة بكلّ هذه المتعة، أخاف أن أعي أنني كنت قبل ذلك في عداد الأموات.
قُبلة واحدة، وإذا بي أكتشف الحياة دفعة واحدة. وأكتشف حجم خسائري السابقة.
كنت أودّ لو كان بإمكاني أن أملأ هذا الدفتر الأسود. وأنا أصف فقط هذه اللحظة الفاصلة بين عمرين. أن أوقفها. أن أحنطها داخل الوقت.
أود لو كانت لي يدا النحات الشهير رودان وموهبته، كي أخلد عاشقين، توقف بهما الزمن إلى الأبد في لحظة شغف، وهما منشغلان عن العالم، ومنصهران في قبلة من حجر.
لو كانت لي قدرة بروست في رائعته البحث عن الزمن الضائع على كتابة عشرين صفحة في وصف قبلة واحدة لا أكثر.
ألأنّ قبلة بروست لم تحدث حقاً، وانتهت بعد طول السرد على خدّ الحبيبة، استطاع أن يصفها إلى ذلك الحدّ؟
ولأن رودان لم يكن وفيّاً تماماً لكاميل كلوديل النحاتة التي أقامت معه علاقة عاصفة أوصلتها إلى مصحّ المجانين حيث ماتت، أراد منذ البدء أن يعوض عن غيابها الحتميّ في محترفه وفي حياته، بتمثال مربك في عريه يخلد به قبلة لن تتكرر بينهما.
هل وعى الخذلان المبكر شرط إبداعي؟ والعودة بسلال فارغة وحدها يمكن أن تملأ كتاباً؟
الجواب عن هذا السؤال لا يعنيني الآن.. وفي جميع الحالات أنا عاجزة عن الجواب عنه.
هذه الرغبة التي تسكنني الآن تمنعني من التفكير. تشعلني، تحرق أصابعي. تمنعني من الكتابة. بل ربما كانت أرغمتني على الكتابة، لو لم يكن أمامي هذا الهاتف، الذي يمنحك بأرقام سحرية وجبة حبّ فورية، تجعل من الحماقة الجلوس أمام ورقة لاستحضار حبيب بالكتابة!
أتّجه نحو الهاتف، لأطلب ذلك الرجل. وأنا أفكر في ما سبّبه هذا الجهاز من خسارة للأدب. فكم من نصوص جميلة.. وكم من رسائل حبّ لن تكتب، قتلتها كلمة "ألو"!
ولكن قبل أن أرفع السماعة، دقّ الهاتف وهزّني. كان زوجي على الخطّ. يحدث لكلمة "ألو" أن تقتل الوهم أيضاً!
جمل عجلى نتبادلها، وكأننا نتحدث على بعد قارات. أو كأن الهاتف الذي يتحدث منه ليس مدفوعاً من طرف الدولة.
فليكن! إنه دائماً على عجل. وربّما كانت الأحداث حوله هي التي تسرع، ما دام يأمرني بالعودة إلى قسنطينة، بعد غد، على متن الطائرة، لا في السيارة، نظراً إلى تدهور الوضع الأمنيّ في العاصمة.
أسأله ماذا أفعل بالسائق. يقول:
-ليعد وحده بالسيارة. بعد أن يوصلك أنت وفريدة إلى المطار. لقد حجزت لكما على الرحلة الصباحية. الساعة التاسعة والنصف.
أغلق السماعة وأبقى للحظات جامدة.
كانت عودتي متوقعة، نظراً إلى حلول العيد بعد ثلاثة أيام. ولكن كنت أتوقع معجزة ما، أو حادثاً طارئاً ما، يجعل زوجي يطلب مني البقاء إلى حين عودة أمي من الحج. وهو ما سيمنحني فرصة لقاء ذلك الرجل ولو مرّة أخرى.
فكرة الوقت الذي بدأ بمطاردتي جعلتني أستعجل في طلبه، وكأنني أدخل فوراً في سباق مع الزمن.
ستة أرقام.. هاتف يدق دقتين لا أكثر.. وصوت يردّ، وكأنه هنا في انتظاري:
-هل وصلت بسلامة؟
-نعم.. وأنت؟
-لم أغادر البيت. فضّلت أن أستفيد من ذاكرة الأمكنة. رائحتك ما زالت تسكن هذا البيت. إنها عقابك الجميل لي.
-لم أقصد ذلك..
-كان يمكن أن تفعلي، لو قرأت ما فعلت جوزفين بنابليون، عندما أجبرها على مغادرة القصر.
-ماذا فعلت؟
-رشت بعطرها غرفته، بما يكفي لإبقائه خمسة عشرة يوماً محاصراً بها، رغم وجوده مع أخرى. وقبلها كانت كليوبترا ترشّ أشرعة باخرتها بعطرها، حتّى تترك خلفها خيطاً من العطر حيث حلّت.
أقول ضاحكة:
-حسناً.. سأستفيد من هذه المعلومات للمّرة القادمة.
ولكنّه يردّ بعد شيء من الصمت:
-لن يكون هناك من مرة قادمة.
-لماذا؟
يردّ دون أن يؤثر انفعالي في نبرة صوته:
-لأنني مسافر غداً..
-أنت ذاهب إلى قسنطينة؟
-لا.. إلى فرنسا.
أصرخ من جديد بعجب:
-إلى فرنسا! وماذا ستفعل هناك؟
يجيب ضاحكاً:
-ما يفعله الآخرون عندما يسافرون إلى هناك.
-ولكنّك..
يقاطعني:
-ولكنني لا أشبههم.. أليس هذا ما تعنينه؟ أنا كائن حبريّ أسافر بين دفاترك ومعك فقط. ومن قسنطينة إلى العاصمة.. لا أكثر. وليس من حقّي أن آخذ تذكرة سفر لشخص واحد.. ولوجهة ليست وجهتك.
يصمت ثمّ يواصل:
-ولكنني لست البطل الذي تتوهمين. أبطالك لا يمرضون ولا يشيخون، وأنا متعب ومريض يا سيدتي.
أقول بخوف مفاجئ:
-ممّ تعاني؟
يردّ متهكماً، كما لفرط حزنه:
-أعاني الوقوف.. لقد قضيت عمري واقفاً، لأنني لا أحسن الجلوس على المبادئ.
لا أريد أن أتعمق في فهم ما يقوله. سؤال واحد يعنيني:
-ومتى تعود؟
-لا أدري.. أنا رجل عابر.
-ولكنني معنية بحياتك..
يجيب ساخراً:
-أيّ حياتيَّ تعنيك؟
أصمت لا أفهم ما يقصد.
يواصل:
-أنا لم أوفق في حياتي. ولذا أصبحت أمنيتي أن أوفق في موتي. أيمكن أن تهدي إليّ موتاً جميلاً.. إذا ما خذلتني الحياة في المشهد الأخير؟
أصرخ:
-ما هذا الذي تقوله؟ لقد كنّا منذ ساعات قليلة سعيدين، نتحدث عن الحبّ. ما الذي أوصلك إلى هذا التشاؤم؟
يضحك:
-ولكن لأن الحب يعنيك.. لا بد أن يعنيك الموت أيضاً. فالحب كالموت. هما اللغزان الكبيران في هذا العالم. كلاهما مطابق للآخر في غموضه.. في شراسته.. في مباغتته.. في عبثيته.. وفي أسئلته.
نحن نأتي ونمضي، دون أن نعرف لماذا أحببنا هذا الشخص دون آخر؟ ولماذا نموت اليوم دون يوم آخر؟ لماذا الآن؟ لماذا هنا؟ لماذا نحن دون غيرنا؟ ولهذا فإنّ الحبّ والموت يغذيان وحدهما كلّ الأدب العالمي. فخارج هذين الموضوعين، لا يوجد شيء يستحق الكتابة.
يستدرجني كلامه إلى حالة من التفكير، فأغرق في صمت يقطعه من جديد صوته:
-أتدرين بماذا فكرت وأنا أقبلك اليوم؟
-بماذا؟
-فكرت.. أنه إذا كانت كلّ القبل مثلنا تموت، فالأجمل أن نموت أثناء قبلة.
-عجيب.. هل تصدق أنني عندما عدت، كتبت على دفتري "ثمة قبل إن لم نمت أثناءها فنحن لسنا أهلاً للعيش بعدها".
يسجّل لحظة صمت وكأنه يتعمق في هذه الفكرة أو يتذوقها. ثمّ يقول:
-لقد أدركت وحدك.. أنه دون ملامسة الموت. لا توجد حالة حبّ شاهقة بما فيه الكفاية لتسمّى عشقاً.
أصمت وكأنني تلميذة تحاول أن تحفظ كلّ ما يلقنها أستاذ. لا برنامج دراسياً له عدا مزاجه المتقلب، وعليها أن تستوعب في يوم واحد، درساً في الرغبة، وثانياً في الموت، وثالثاً في الحبّ، وآخر في فن التخلي عن امرأة، قبلناها بكلّ ذلك الشغف.. ونغادرها بهذا القدر من اللامبالاة!
هذا كلّ ما علق في ذهني من هاتفه.
لا أذكر أنه قال بعد ذلك كلمة حبّ معينة. أو أنه ترك لي رقم هاتف آخر. أو عنواناً بالتحديد.
قال فقط، إنه يحمل معه رائحة الوقت المسروق. وأضاف معتذراً أنه يريد أن ينام ليستريح استعداداً للسفر.
وفهمت أنه سيكون بإمكاني أن أطلبه غداً، حين أستيقظ، لنتحدث مرة أخيرة في هذه التفاصيل.
ولكن في اليوم التالي، كانت الساعة السابعة صباحاً. كنت أستيقظ من ليلة مضطربة، عندما طلبت ذلك الرقم وأنا نصف نائمة.
كان الهاتف يدقّ بطريقة شبيهة بالبكاء.. ولم يكن ثمة من أحد ليوقف بكاءه على الطرف الآخر للذاكرة. إنها ملهاة الحبّ الدائمة التكرار.
الآن فقط، يمكن للصمت أن يبكي....
عاودتني أسئلتي.. وأنا أنظر إليه
كما تقرأ غجرية الكف، رحت أقرأ هيأته. بحدسي وحواسي فقط.
لا يعنيني اللحظة أن أكتشف ماضيه، بقدر ما يعنيني أن أطالع قدري مكتوباً عليه، قدراً متعب الشفاه، فوضويّ الشعر، كسول الكلمات، مربك اللمسات، مباغت القبلات، متناقض الرغبات، كرجل في الأربعين.
يسألني:
-فيم تفكرين؟
أجيب:
-أحب الرجال في الأربعين
يبتسم.. يردّ:
-ولكنني لست الرجل الذي تتوهمين!
يلقي برماد سيجارته في المنفضة. ويمد نحوي يده:
-تعالي.. اجلسي قريباً مني
أتردد بعض الشيء قبل أن أعترف:
-إنني أتصبب عرقاً. أنا أرتدي هذه العباءة منذ ساعات.
أتوقع أن يقول اخلعيها مثلاً. لكنه يقول وهو يسحبني إلى جواره:
-أحب رائحتك.. لقد أحببت دائماً لغة جسدك!
ثم يواصل وكأنه يطمئنني:
-إن جسداً لا رائحة له.. هو جسدٌ أخرس!
أقول وأنا أجلس على مقربة منه:
-أخاف أن يأتي يوم يصبح فيه جسدي أكثر بلاغة مني!
يردّ:
-في جميع الحالات هو أكثر صدقًا منك.. فوحدها حواسنا لا تكذب
يواصل:
-لكن العجيب.. أنّ لي إحساساً ثابتاً بأنني قابلتك في بيت آخر، وقبّلتك في زمن آخر، وأنّ هذه الرائحة أعرفها من ضمة أخرى، وهذا المذاق خبرته في قبلة أخرى.. كيف تفسرين أنّ بإمكاننا أن ننسى الجسد الذي امتلكناه ولكننا لا ننسى الجسد الذي اشتهيناه.. ولم نمتلكه؟
طبعاً لم أكن أملك جواباً لأسئلة كهذه. خاصةً أنني لم أكن أبادله الإحساس بأن هذا قد حدث في زمن سابق.
أكتفي بالقول:
-جميلة هي هذه الحالة العالية من الرغبة. ثمة بطولة ما، في البقاء على قيد الوفاء.. لِوَهْم!
ولكنّه وضع رجليه على الطاولة المقابلة له وقال بشيء من السخرية وهو ينفث دخانه بيننا:
-أية بطولة؟ مازلت تأخذين الحياة مأخذ الأدب، لأن الناس يحبون القصص التي تنتهي بخيبة، والتي تكثر فيها المبادئ، ويصمد فيها "البطل" حتى الصفحة الأخيرة، لأنهم في الحياة عاجزون عن الصمود إلى هذا الحدّ..
وأضاف:
-انتهى زمن القضايا الجميلة. لقد خذلتنا البطولات في الحياة. فلتكن لنا في الروايات بطولات أجمل.
كلّ بطولات الفضيلة.. وكلّ انتصارات الحكمة. لا تساوي شيئاً أمام عظمة السقوط في لحظة ضعف أمام من نحبّ. السقوط عشقاً، هو أكثر انتصاراتنا ثباتاً!
يمسك بيدي كأنه يستوقفني يقول:
-هذه المرّة.. أريد لنا بطولات بسيطة وجميلة.. في متناول الجميع. كأن تكون لنا أطول قبلة في تاريخ الأدب الجزائري..
ثم يسألني أمام دهشتي:
-أتدرين بماذا فكرت وأنا أقبلك منذ قليل؟
قلت بفضول:
-بماذا؟
أجاب:
-فكرت أنّ الحياة بدأت معنا في تقليد الأدب. كأن الحبّ أومأ لنا، لنواصل في الحياة، قبلة بدأناها في كتاب سابق.
كما في تلك الرواية. ها نحن في موعدنا الأول نفسه. نواصل قبلة أمام المكتبة إياها. وأنت تستعيرين أحدها.
أحب مصادفة هذه القبلة العابرة للكتب، العابرة لقصّتين. تصوّري روعة قبلة يبدأها رجلٌ وهميّ في كتاب.. ويواصلها في الحياة رجل آخر، تطابق مع الأول حتّى لكأنّه يعرف مذاق شفتي هذه المرأة.
في زمن البطولات الخارقة، والصواريخ العابرة للقارات والأقمار العابرة للكواكب... قبلةٌ عابرةٌ للزمن، عابرة للروايات، تظلّ أهم إنجاز قد يفتخر به المرء.
أقول:
-جميل كلّ هذا.. ولكن لا أفهم لماذا تصرّ على تحطيم هذا الرقم القياسيّ بالذات. عادةً يزهو الرجال بتحطيم أرقام قياسية أخرى!
يضحك وكأنّ سؤالي فاجأه. يقول بعد شيء من الصمت وكأنه جمع كلماته استعداداً لمرافعة:
-لأن القبلة هي الفعل العشقيّ الوحيد الذي تشترك فيه جميع حواسنا. نحن في حاجة إلى حواسنا الخمس لتقبيل شخص. ولكن لسنا في حاجة إليها جميعها لنمارس الجنس. القبلة تفضحنا. لأنها حالة عشقية محض، لا علاقة لها بالرغبات الجنسية التي نشترك فيها مع كلّ الحيوانات.
ولذا، نحن قد نمارس الحبّ مع شخص لا نشعر برغبة في تقبيله. وقد نكتفي بقبلة من امرأة تمنحنا شفتاها من الحمّى، ما تعجز أجساد كلّ النساء على منحنا إياه!
تعلو وجنتيّ حمرة مفاجئة. أرتبك لهذه الكلمات التي يتكهرب لها جسدي. ولكنني لا أقول شيئاً، وكأنني أصبحت فجأة أخرى.
يرفع عن وجهي خصلة أسدلها الارتباك. يقول:
-مارست الحبّ كثيراً.ولكنني الآن أنتبه أنّني لم أقبّل امرأةً منذ زمن طويل، وأنّ عمر لذتي توقف على شفتيك عند الصفحة 172.
أوشكت أن أسأله، عن أي كتاب يتحدّث؟ وكيف يذكر رقم الصفحة بالتحديد؟ ولكنني لم أعد أجد لي صوتاً أضيف به شيئاً إلى ما قاله.
فأقف وكأنني أبحث عن جواب قد أعثر عليه واقفة.
قد يكون أساء فهمي. فقد نظر إلى ساعته وسألني:
-متى يحضر السائق؟
أجبته:
-إنه ينتظرني عند الخامسة.. في الشارع الخلفيّ.
ردّ:
-أمامك ربع ساعة. أنصحك بالذهاب.
لا أجادله في شيء. فأنا أعرف عادته في قطع موعدنا في لحظته الأجمل. كما ينقطع تيار كهربائي أثناء احتفال.
أضاف وكأنه انتبه لشؤون أنساه إياها الحبّ:
-الوضع سيء، وقد تحدث مواجهات في الساعات القليلة القادمة بين المتظاهرين والجيش.
سألته كمن يبحث عن عذر للبقاء.
-لماذا اليوم؟ لماذا الآن؟
قال:
-لأن زعيم الإنقاذ خطب اليوم واصفاً الشاذلي بأنه مسمار مزروع في كعب الجزائر لابدّ من اقتلاعه، وأنّ مسيرة من الملتحين تتوجه نحو القصر الرئاسيّ مطالبة بتقديم تاريخ الانتخابات الرئاسية.
سألني وهو يرى اندهاشي لهذه الأخبار:
-ألا تستمعين إلى الإذاعة؟
قلت كمن يعتذر:
-لا يوجد مذياع حيث أنا، ولأنك نصحتني بأن لا أطالع الجرائد.
فأنا معزولة عن العالم منذ أسبوعين، في ذلك المصيف.
رحت على مرأى منه أجدد هيأتي أمام مرآة. أضع من جديد ذلك الشال على رأسي.
أشياء حوله أحسدها. أتركها خلفي وأتجه نحو الباب.
استوقفني حاملاً ذلك الكتاب. قال مازحاً وهو يمدّني به:
-يبدو لي الآن أنني أتطابق مع خالد في تلك الرواية. ولكن لا خطر من إعارتك هذا الكتاب.. مادام ليس ديواناً لزياد!
عجبت لذاكرته، ولغمزته الساخرة، وأدهشني أن يعرف إحدى رواياتي إلى هذا الحدّ.
قلت وأنا أطمئنه:
-لقد مات هنري ميشو منذ عدّة سنوات. ولا خطر عليك منه!
ردّ مازحاً:
-لا أدري.. ولكنّني تعلمت أن لا أطمئن إلى قراءاتك!
ضحكت.
تذكّرت أن في تلك الرواية تستعير البطلة من خالد ديوان شعر لصديقه الفلسطيني زياد، الذي لا ينفك يحدثها عنه وعن شعره بإعجاب. مطمئناً إلى وجوده في الجبهة. ثم يصادف أن يحضر زياد من لبنان لزيارة باريس لبضعة أيام، فتقع البطلة في حب الشاعر وتتخلّى عن الراوي، الذي خسرها منذ بدأت في قراءة ذلك الكتاب.
أمام الباب الذي ما زال مغلقاً على سرّنا، ضمّني إليه دون أن يقول شيئاً. وكأنّ ذلك الشال الذي يغطّ رأسي أعادنا إلى خانة الغرباء.
افترقنا دون قبلة, دون سلام. كلمات قليلة فقط قالها وأنا أغادر البيت:
-أنتظر هاتفك.. اطلبيني حال وصولك لأطمئن إليك..
أجبت بصوت غائب:
-سأفعل..
توقفت لأنظر إلى الباب وهو ينغلق خلفي، على لحظة مسروقة من شرعيّة القدر. ونزلت الدرج بخطى سارق يرى في كلّ من يصادفه، عيوناً تشتبه في أمره. وهو نفسه يبدأ بالاشتباه في سعادته، وفي لذة وقد مضت، لم تعد تستحقّ كلّ تلك المجازفة. وفي لحظة حبّ وقد انتظرها طويلاً، وخطط لها عدّة أيام، وإذا بها في لحظة صغيرة، لا تتجاوز ما يستغرقه إغلاق باب من وقت، قد أصبحت خلفه.
أجل.. لا أتعس من عاشق يهبط الدرج!
أعود إلى البيت سالكة الطريق نفسه، ولكن بخوف أكثر، وحماس أقلّ. تسكنني فسحة غامضة للفرح.. وأخرى للندم.
أن تخلو بنفسك ساعتين في سيّارة يقودها سائق عسكريّ يعود بك من موعد حبّ، سالكاً شوارع الغضب وأزقّة الموت، ليس سوى سقوط مفجع نحو الواقع، ووقت كافٍ للندم.
يساعدك في ذلك زيّ التقوى الذي تلبسه. وإذا به يلبسك إذا بك تفكر ضدّ نفسك!
ولذا ما كدت أصل إلى البيت، حتّى أسرعت بخلع تلك العباءة، واعدتها إلى صاحبتها. عساني أتصالح مع جسدي.
منذ قرن، لكي تستطيع الكتابة، تبنّت جورج صاند اسمًا رجالياً، وثياباً رجالية. عاشت داخلها كامرأة. ولأنّ هذا لم يعد ممكناً، فأنا أستعير كلّ مرة ثياب امرأة أخرى، كي أواصل الكتابة داخلها.
الأدب يعلّمنا أن نستعير من الآخرين حيواتهم قناعاتهم، وهيأتهم الخارجية. ولكن ليس السطو على أشيائهم الحميمية هو الأصعب.
الأصعب عندما نغلق بعد ذلك دفاترنا، ونخلع ما ليس لنا، ونعود لنقيم في أجساد لم تعد تعرفنا، لكثرة ما ألبسناها ثياباً لا تشبهها!
أرتدي ثوب بيتي الصيفيّ. وأجلس لأفكر في ما حلّ بي.
اللّذة كالألم. تجبرك على إعادة النظر في حياتك، على مراجعة قناعاتك السابقة، بل وقد تذهب بك إلى حدّ سؤال جنونيّ: "ما جدوى حياتك بعدها؟".
ثمّة قُبل إن لم تمت أثناءها، فأنت لست أهلاً لأن تعيش بعدها. وفي الحالتين تقع على اكتشاف مدهش: أنت لم تكن قد جئت إلى الحياة قبلها.
..كذلك الذي كان يتطاول على الموت، ويردّ ضاحكاً على خوفي عليه قائلاً "إنني في حاجة إلى أن أموت أحياناً.. لأعي بعد ذلك أنني ما زلت على قيد الحياة".
كنت عندما تأتيني الحياة بكلّ هذه المتعة، أخاف أن أعي أنني كنت قبل ذلك في عداد الأموات.
قُبلة واحدة، وإذا بي أكتشف الحياة دفعة واحدة. وأكتشف حجم خسائري السابقة.
كنت أودّ لو كان بإمكاني أن أملأ هذا الدفتر الأسود. وأنا أصف فقط هذه اللحظة الفاصلة بين عمرين. أن أوقفها. أن أحنطها داخل الوقت.
أود لو كانت لي يدا النحات الشهير رودان وموهبته، كي أخلد عاشقين، توقف بهما الزمن إلى الأبد في لحظة شغف، وهما منشغلان عن العالم، ومنصهران في قبلة من حجر.
لو كانت لي قدرة بروست في رائعته البحث عن الزمن الضائع على كتابة عشرين صفحة في وصف قبلة واحدة لا أكثر.
ألأنّ قبلة بروست لم تحدث حقاً، وانتهت بعد طول السرد على خدّ الحبيبة، استطاع أن يصفها إلى ذلك الحدّ؟
ولأن رودان لم يكن وفيّاً تماماً لكاميل كلوديل النحاتة التي أقامت معه علاقة عاصفة أوصلتها إلى مصحّ المجانين حيث ماتت، أراد منذ البدء أن يعوض عن غيابها الحتميّ في محترفه وفي حياته، بتمثال مربك في عريه يخلد به قبلة لن تتكرر بينهما.
هل وعى الخذلان المبكر شرط إبداعي؟ والعودة بسلال فارغة وحدها يمكن أن تملأ كتاباً؟
الجواب عن هذا السؤال لا يعنيني الآن.. وفي جميع الحالات أنا عاجزة عن الجواب عنه.
هذه الرغبة التي تسكنني الآن تمنعني من التفكير. تشعلني، تحرق أصابعي. تمنعني من الكتابة. بل ربما كانت أرغمتني على الكتابة، لو لم يكن أمامي هذا الهاتف، الذي يمنحك بأرقام سحرية وجبة حبّ فورية، تجعل من الحماقة الجلوس أمام ورقة لاستحضار حبيب بالكتابة!
أتّجه نحو الهاتف، لأطلب ذلك الرجل. وأنا أفكر في ما سبّبه هذا الجهاز من خسارة للأدب. فكم من نصوص جميلة.. وكم من رسائل حبّ لن تكتب، قتلتها كلمة "ألو"!
ولكن قبل أن أرفع السماعة، دقّ الهاتف وهزّني. كان زوجي على الخطّ. يحدث لكلمة "ألو" أن تقتل الوهم أيضاً!
جمل عجلى نتبادلها، وكأننا نتحدث على بعد قارات. أو كأن الهاتف الذي يتحدث منه ليس مدفوعاً من طرف الدولة.
فليكن! إنه دائماً على عجل. وربّما كانت الأحداث حوله هي التي تسرع، ما دام يأمرني بالعودة إلى قسنطينة، بعد غد، على متن الطائرة، لا في السيارة، نظراً إلى تدهور الوضع الأمنيّ في العاصمة.
أسأله ماذا أفعل بالسائق. يقول:
-ليعد وحده بالسيارة. بعد أن يوصلك أنت وفريدة إلى المطار. لقد حجزت لكما على الرحلة الصباحية. الساعة التاسعة والنصف.
أغلق السماعة وأبقى للحظات جامدة.
كانت عودتي متوقعة، نظراً إلى حلول العيد بعد ثلاثة أيام. ولكن كنت أتوقع معجزة ما، أو حادثاً طارئاً ما، يجعل زوجي يطلب مني البقاء إلى حين عودة أمي من الحج. وهو ما سيمنحني فرصة لقاء ذلك الرجل ولو مرّة أخرى.
فكرة الوقت الذي بدأ بمطاردتي جعلتني أستعجل في طلبه، وكأنني أدخل فوراً في سباق مع الزمن.
ستة أرقام.. هاتف يدق دقتين لا أكثر.. وصوت يردّ، وكأنه هنا في انتظاري:
-هل وصلت بسلامة؟
-نعم.. وأنت؟
-لم أغادر البيت. فضّلت أن أستفيد من ذاكرة الأمكنة. رائحتك ما زالت تسكن هذا البيت. إنها عقابك الجميل لي.
-لم أقصد ذلك..
-كان يمكن أن تفعلي، لو قرأت ما فعلت جوزفين بنابليون، عندما أجبرها على مغادرة القصر.
-ماذا فعلت؟
-رشت بعطرها غرفته، بما يكفي لإبقائه خمسة عشرة يوماً محاصراً بها، رغم وجوده مع أخرى. وقبلها كانت كليوبترا ترشّ أشرعة باخرتها بعطرها، حتّى تترك خلفها خيطاً من العطر حيث حلّت.
أقول ضاحكة:
-حسناً.. سأستفيد من هذه المعلومات للمّرة القادمة.
ولكنّه يردّ بعد شيء من الصمت:
-لن يكون هناك من مرة قادمة.
-لماذا؟
يردّ دون أن يؤثر انفعالي في نبرة صوته:
-لأنني مسافر غداً..
-أنت ذاهب إلى قسنطينة؟
-لا.. إلى فرنسا.
أصرخ من جديد بعجب:
-إلى فرنسا! وماذا ستفعل هناك؟
يجيب ضاحكاً:
-ما يفعله الآخرون عندما يسافرون إلى هناك.
-ولكنّك..
يقاطعني:
-ولكنني لا أشبههم.. أليس هذا ما تعنينه؟ أنا كائن حبريّ أسافر بين دفاترك ومعك فقط. ومن قسنطينة إلى العاصمة.. لا أكثر. وليس من حقّي أن آخذ تذكرة سفر لشخص واحد.. ولوجهة ليست وجهتك.
يصمت ثمّ يواصل:
-ولكنني لست البطل الذي تتوهمين. أبطالك لا يمرضون ولا يشيخون، وأنا متعب ومريض يا سيدتي.
أقول بخوف مفاجئ:
-ممّ تعاني؟
يردّ متهكماً، كما لفرط حزنه:
-أعاني الوقوف.. لقد قضيت عمري واقفاً، لأنني لا أحسن الجلوس على المبادئ.
لا أريد أن أتعمق في فهم ما يقوله. سؤال واحد يعنيني:
-ومتى تعود؟
-لا أدري.. أنا رجل عابر.
-ولكنني معنية بحياتك..
يجيب ساخراً:
-أيّ حياتيَّ تعنيك؟
أصمت لا أفهم ما يقصد.
يواصل:
-أنا لم أوفق في حياتي. ولذا أصبحت أمنيتي أن أوفق في موتي. أيمكن أن تهدي إليّ موتاً جميلاً.. إذا ما خذلتني الحياة في المشهد الأخير؟
أصرخ:
-ما هذا الذي تقوله؟ لقد كنّا منذ ساعات قليلة سعيدين، نتحدث عن الحبّ. ما الذي أوصلك إلى هذا التشاؤم؟
يضحك:
-ولكن لأن الحب يعنيك.. لا بد أن يعنيك الموت أيضاً. فالحب كالموت. هما اللغزان الكبيران في هذا العالم. كلاهما مطابق للآخر في غموضه.. في شراسته.. في مباغتته.. في عبثيته.. وفي أسئلته.
نحن نأتي ونمضي، دون أن نعرف لماذا أحببنا هذا الشخص دون آخر؟ ولماذا نموت اليوم دون يوم آخر؟ لماذا الآن؟ لماذا هنا؟ لماذا نحن دون غيرنا؟ ولهذا فإنّ الحبّ والموت يغذيان وحدهما كلّ الأدب العالمي. فخارج هذين الموضوعين، لا يوجد شيء يستحق الكتابة.
يستدرجني كلامه إلى حالة من التفكير، فأغرق في صمت يقطعه من جديد صوته:
-أتدرين بماذا فكرت وأنا أقبلك اليوم؟
-بماذا؟
-فكرت.. أنه إذا كانت كلّ القبل مثلنا تموت، فالأجمل أن نموت أثناء قبلة.
-عجيب.. هل تصدق أنني عندما عدت، كتبت على دفتري "ثمة قبل إن لم نمت أثناءها فنحن لسنا أهلاً للعيش بعدها".
يسجّل لحظة صمت وكأنه يتعمق في هذه الفكرة أو يتذوقها. ثمّ يقول:
-لقد أدركت وحدك.. أنه دون ملامسة الموت. لا توجد حالة حبّ شاهقة بما فيه الكفاية لتسمّى عشقاً.
أصمت وكأنني تلميذة تحاول أن تحفظ كلّ ما يلقنها أستاذ. لا برنامج دراسياً له عدا مزاجه المتقلب، وعليها أن تستوعب في يوم واحد، درساً في الرغبة، وثانياً في الموت، وثالثاً في الحبّ، وآخر في فن التخلي عن امرأة، قبلناها بكلّ ذلك الشغف.. ونغادرها بهذا القدر من اللامبالاة!
هذا كلّ ما علق في ذهني من هاتفه.
لا أذكر أنه قال بعد ذلك كلمة حبّ معينة. أو أنه ترك لي رقم هاتف آخر. أو عنواناً بالتحديد.
قال فقط، إنه يحمل معه رائحة الوقت المسروق. وأضاف معتذراً أنه يريد أن ينام ليستريح استعداداً للسفر.
وفهمت أنه سيكون بإمكاني أن أطلبه غداً، حين أستيقظ، لنتحدث مرة أخيرة في هذه التفاصيل.
ولكن في اليوم التالي، كانت الساعة السابعة صباحاً. كنت أستيقظ من ليلة مضطربة، عندما طلبت ذلك الرقم وأنا نصف نائمة.
كان الهاتف يدقّ بطريقة شبيهة بالبكاء.. ولم يكن ثمة من أحد ليوقف بكاءه على الطرف الآخر للذاكرة. إنها ملهاة الحبّ الدائمة التكرار.
الآن فقط، يمكن للصمت أن يبكي....
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
14.02.23 10:46 من طرف r brigad
» :)*"ملتقى الأعضاء"*(:
11.05.19 23:40 من طرف BRAD
» اسال عن الجميع
11.05.19 23:38 من طرف BRAD
» يلا ثقافة احمد الشقيري .. تعال هنا
22.04.16 10:03 من طرف فـارس بـلاجـواد
» السلام عليكم
07.10.15 16:31 من طرف r brigad
» برنامج حسابات
09.07.15 12:28 من طرف hebadexef
» بالصور: أفضل برنامج لتعلم الانجليزية للهواتف الذكية
12.02.15 10:10 من طرف طلال احمد الشيخ
» دورة تدريبية في مراقبة المخزون
16.09.14 18:08 من طرف عابر سبيل
» حقائق رقمية مذهلة في سورة الناس
20.04.14 15:26 من طرف ines
» تعلم تحدث الإنجليزية بطريقة جيدة وممتعة
23.01.14 0:54 من طرف نبع الورود
» ادارة المخاطر المالية
12.12.13 20:43 من طرف عابر سبيل
» اساليبي الاستثماربالصنديق الاستثمارية
23.11.13 9:31 من طرف عابر سبيل